كل من امتلك كاميرا
وشيئًا من الجرأة يُلقب
بـ «بلوجر» أو «صانع محتوى»
فى زمنٍ تحوّل فيه الهاتف الذكى إلى منبر إعلامى، وأصبح فيه كل من يمتلك كاميرا وشيئاً من الجرأة يُلقب بـ «بلوجر» أو «صانع محتوى»، نشهد تسارعاً مؤسفاً نحو انحدار الذوق العام وتآكل القيم المجتمعية، وسط غياب شبه تام للمساءلة الجادة.. فليس من المقبول أن يُترك المجال مفتوحاً لكل من هبّ ودبّ ليعبث بعقول الناشئة، ويشكك فى الثوابت، ويجعل من الابتذال والتفاهة سلعة رائجة تحصد ملايين المشاهدات.
صناعة المحتوى على «تيك توك» ومنصات التواصل الاجتماعى ليست فى حد ذاتها مشكلة، بل هى من أدوات العصر ووسائل التعبير الحديثة، لكن الكارثة تكمن فى انزلاق عدد كبير من المستخدمين نحو إنتاج مواد فارغة، مبتذلة، .. هؤلاء البلوجرز، الذين يصنفون أنفسهم كمؤثرين، لا يقدمون محتوى تثقيفياً أو تنموياً، بل ينخرطون فى بث مقاطع تحمل ألفاظاً سوقية.
الخطورة لا تكمن فقط فى المحتوى الركيك الذى يقدمونه، بل فى الأثر التراكمى لهذا التلوث البصرى والسمعى على الأطفال والمراهقين.. هؤلاء يتلقون رسائل مشوهة عن معنى النجاح والنجومية، ويرتبط فى أذهانهم مفهوم التأثير بعدد المشاهدات والضجيج، لا بجودة الطرح أو نبل الرسالة.. وبهذا، يسهم البلوجرز فى تفكيك البنية القيمية للأسرة.
ما نعيشه اليوم ليس مجرد «محتوى سيىء»، بل هو ظاهرة تفسخ ثقافى تستوجب المواجهة الحقيقية. ولا يكفى أن ننتقد فى المجالس أو نعبّر عن الاستياء فى تعليقات عابرة.. بل حان الوقت لتأسيس منظومة قانونية صارمة، تُخضع صناع المحتوى لمساءلة تتناسب مع خطورة تأثيرهم.. على السلطات المختصة وفى مقدمتها النيابة العامة وهيئة الإعلام، أن تفعّل آليات التحقيق والملاحقة لكل من يثبت تورطه فى إفساد الذوق العام، أو التحريض على السلوكيات الشاذة، أو الإساءة إلى رموز المجتمع.
كما تقع مسئولية كبيرة على المحامين الوطنيين الذين نثق بغيرتهم على القيم، أن يتصدوا قانونياً لهذه النماذج المسيئة، عبر رفع دعاوى ضد من يروّج للمحتوى المنحرف أو يسىء استخدام حرية التعبير.. هؤلاء المحامون لا يدافعون فقط عن نصوص قانونية، بل عن أخلاقيات وطن.
وإلى جانب القانون، لابد من إنشاء هيئة رقابية متخصصة فى تقييم المحتوى الرقمى، وتحديد ضوابط النشر، وتقديم تقارير دورية حول أبرز التجاوزات، ومنح صلاحيات للمنصات الكبرى لحذف المحتوى المخالف، بل وربط حسابات صنّاع المحتوى بهوياتهم الوطنية، لضمان المحاسبة.
المعركة اليوم ليست بين متحفّظ ومنفتح، بل بين مسئول ومتسيب.. فإما أن نكون فى صفّ حماية الأخلاق وبناء الوعى، أو أن نترك الساحة للبلوجر الجاهل يُنظّر، ويؤثر، ويفسد فى الأرض، دون رقيب أو حسيب.
المجتمع القوى يبدأ بمحتوى قوى.. ولن تقوم لنا قائمة ما لم نحاصر هذا العبث الإلكترونى، ونتكاتف جميعاً أفراداً، ومؤسسات، ونخباً قانونية، لمحاسبة كل من يستغل الكاميرا لهدم القيم بدل بنائها.