فى نهاية كل عام دراسى ، ومع انتهاء ماراثون الثانوية العامة الطويل، تبدأ كل أسرة مصرية فى ممارسة طقوسها والتى تبدأ بفترة صمت وهدوء حذر، ثم سفر إلى المصيف بضعة أيام ، قبل أن يتنفس الجميع الصعداء وتعود الحياة إلى طبيعتها، حتى تظهر «النتيجة» وهنا، تنقسم العائلات إلى قسمين: قسم يحتفل بالزغاريد والتهانى، وشراء الهدايا وقسم يدخل فى اجتماع طارئ لا يقل خطورة عن اجتماعات مجلس الأمن، لمناقشة الخطة بـ «اللجوء إلى التعليم الخاص» التعليم الخاص المعتمد»، أو كما يحب أن يطلق عليه البعض «جمهورية المعاهد»، وهى دولة مستقلة لها قوانينها الخاصة، وعملتها الرسمية التى لا تقبل المساومة، والتى تُعرف بين الجميع باسم «ظرف التقديم». تبدأ رحلة العذاب حين يمسك الأب، «الحاج»، قائمة بأسماء وعناوين المعاهد المتوقع قبول نجله النابه بها ، ويبدأ فى إجراء اتصالاته.. على الطرف الآخر، يرد صوت ناعم ومُدرب جيدًا، مهمته الأولى هى طمأنتك بأن المستقبل مشرق وأن ابنك على وشك أن يصبح «أحمد زويل» القادم.. وعندما تسأل عن المصاريف، يتحول الصوت الناعم الرقيق إلى سياسى محنك، ويتحدث عن «أهمية الخطوة الأولى» و«ضرورة حجز مكان مبكر»..قبل انتهاء الاماكن المتاحة وطبعا الخطوة الأولى، ليست تقديم الشهادات، بل هى شراء «ظرف الالتحاق الورقى الشيك » . وهنا تبدأ الحكاية الحقيقية التى مر بها الآلاف من الآباء سابقا ويمر بها المئات حاليا.. يتوجه الأب والابن فى رحلة استكشافية إلى مقر المعهد، أول ما يقابلك هو طابور طويل من أولياء الأمور.. بعد انتظار قد يطول، تصل أخيرًا إلى الشباك المنشود، حيث يجلس موظف بملل، ينظر إليك نظرة خبير اقتصادى يقيّم قدرتك الائتمانية..تطلب منه «ظرف تقديم»، فيخبرك بالمبلغ المطلوب الذى يتراوح بين 800 و 1500 جنيه، حسب المنطقة الجغرافية للمعهد وقربه من المواصلات.. فى هذه اللحظة، تدفع المبلغ وأنت تتخيل أن هذه الأوراق مطبوعة بحبر من الذهب، ومصنوعة من ألياف الحرير النادرة. تتسلم الظرف أخيرًا، وتفتحه على أمل أن تجد فيه مصباح علاء الدين لتحقيق أمنياتك التعليمية، أو على الأقل كتيبًا يشرح العبقرية التى سيصل إليها ابنك..لكنك تتفاجأ بأنه لا يحتوى إلا على بضع ورقات هزيلة، عليها أسئلة روتينية من نوعية «ما هو اسمك الثلاثى؟» و «هل لديك أى مواهب أخرى؟»، أسئلة لا تكلف طباعتها أكثر من بضعة جنيهات فى أسوأ الأحوال. بعد أن تفيق من صدمة الظرف، تأتى الكارثة الكبرى التى تُعرف بـ»لائحة المصروفات الدراسية»..هذه ليست لائحة، بل هى قائمة أسعار لقطع غيار سيارة كهربائية جديدة كالتى اطلقتها شركة النصر للسيارات . تجد فيها بنودًا إبداعية لم تخطر على بال أعتى خبراء الاقتصاد: «مصاريف إدارية»، «رسوم تطوير وتنمية»، «مصاريف جودة هواء ومعامل افتراضية»، «بدل صيانة أسانسير لم يتم تركيبه بعد»، «مساهمة فى تجديد أثاث مكتب العميد»، وربما «رسوم تأمين ضد هجوم الذباب المفاجئ». أرقام فلكية تجعل الأب المسكين يعيد حساباته المالية، ويفكر جديًا فى الخيارات المتاحة: هل يسوى معاشه ؟ أم يبيع ذهب مراته؟ المدهش فى الامر والذى يزيد الطين بلة، هو الصمت المطبق من حامية حمى التعليم وحقوق الطلاب: وزارة التعليم العالى. للأسف لا توجد رقابة حقيقية على أسعار هذه الأظرف، ولا مساءلة عن هذه الرسوم الخيالية.. كأن هذه المعاهد قد حصلت على حصانة دبلوماسية ضد أى قانون، وتعمل بمبدأ «هذه دولتنا، وهذه قوانيننا، ادفع وأنت ساكت». تخرج من المعهد وأنت تشعر بمزيج من الإرهاق والغضب، فقد تعرضت للتو لعملية ابتزاز رسمية، مغلفة بورق أنيق وشعار «معتمد من وزارة التعليم العالى». الحلم بتعليم جيد لابنك تحول إلى كابوس من الأقساط والفواتير.. فى النهاية، تدرك أن المادة الأهم التى تدرسها هذه المعاهد «طبعا بعضها فهناك من يراعى الظروف ويتعامل وفق قواعد وانظمة مالية معتدلة ومقبولة»ليست فى المناهج، بل فى عملية القبول نفسها..إنها مادة «فن الخضوع المالى»، وهو درس إجبارى تتعلمه قبل أن تطأ قدماك قاعة المحاضرات، وتدفع ثمنه مقدمًا… من خلال ظرف.