الرمز الكاريكاتيرى الصامت يتحوّل إلى مفتاح لفهم خفايا تشويه منظمة التحرير وتأسيس حماس
كيف كان اغتيال الرسّام الشهير و«شرارة الانتفاضة» محسوبَين لترتيب الساحة الفلسطينية؟
تحقيق : أحمد بديوى
هل يمكن أن يتحوّل رمز كاريكاتيرى صامت، إلى مفتاح لفهم خفايا مشهد سياسى متشابك، يمتد من مدينة «بيشاور» الباكستانية إلى العاصمة البريطانية، لندن وقطاع غزة الفلسطيني؟ وهل اغتيال فنان مشاكس كـ»ناجى العلي»، كان محض صدفة مأساوية، أم خطوة محسوبة فى لحظة تحوُّل كبري، أُريد فيها إزاحة منظمة التحرير الفلسطينية التى تضم رموز المشروع الوطنى الفلسطينى لصالح كيان بديل «حركة حماس» ولد من رحم صفقة مشبوهة؟ وإذا كانت شخصية «حنظلة» قد جسّدت الضمير الفلسطينى المقاوم، فكيف يحاول البعض، الآن، توّظيفها؛ وتحويلها إلى شعار زائف لا علاقة لها بالقضية، أو تاريخها التحرري؟
تحوّلت شخصية «حنظلة»، التى ابتكرها الرسّام الفلسطينى الراحل ناجى العلي، من مجرّد كاريكاتير إلى تيمة رمزية تُلخّص، بعمق، مأساة شعبه، مستوحياً صورة طفل «فى العاشرة من عمره، وفق الرسمة الشهيرة» يدير ظهره للعالم منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، احتجاجًا على الصمت العالمى تجاه الظلم الإسرائيلى الواقع على أصحاب الأرض، فيما يداه معقودتان خلف ظهره، تعبيرًا عن انسحابٍ واعٍ من واقعٍ لا يُمثّله، لكنه يتمسّك فى الوقت نفسه بأبجديات العودة وحقّه فى العدالة.
لم يكن «العلــــي» ليتخيّل، قبل محــاولة اغتيــــاله فى 22 يوليو عام 1987، التى أنهت حياته لاحقًا، كيف سيئول حال القضية الفلسطينية، الآن، فى زمن «المقاومة على الشاشات»، وتحالف «إخوان فلسطين» مع الاحتلال الإسرائيلى للتمويه على جريمة مشتركة وقعت فى السابع من أكتوبر 2023، ولم يكن ليتوقّع كيف سيتم استغلال رمزية «حنظلة» وانتهاكها، عبر أشخاص، وجماعات، وكيانات احترفت المتاجرة بفلسطين؛ لاسيما أن «الرسمة» لم تكن يومًا إخوانية، ولا ناطقة باسم أيديولوجيا تتاجر بالأوطان وتدّعى النضال، كما تفعل الجماعة التى صادرت اسم «حنظلة» ووضعته على «سفينة صيد»، ضمن حملة تشويش وابتزاز عاطفى يُعفى إسرائيل من مسئولياتها.
من القاتل؟
فى 29 أغسطس 1987، فاضت روح ناجى العلي، وسط غموضٍ ربما لا يزال مستمرًا، وإن كانت السطور التالية ستعيد قراءة المشهد، وتعيد ترتيب مقاطع الصورة، بحثًا عن المستفيد مما تعرّض له، ولماذا تم اختيار ذلك التوقيت، وأسباب توجيه سهام التشويه إلى الضحايا لا إلى الجناة الحقيقيين؟
دعكم من ماكينة الإعلام الدولي، التى تغذّيها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بما تريد، منذ عقود؛ لكن عودتى إلى التوقيت كشفت لى تعمّد صناعة أجواء الاحتقان آنذاك، تمهيدًا لمشهد مولود جديد، سيتم الدفع به إلى صدارة المشهد الفلسطيني، فى أقل من 108 أيام على جريمة الاغتيال. لكنه يتطلب أولاً سحب البساط من تحت أقدام قوى الثورة الفلسطينية ومناضليها الحقيقيين، الممثلين فى منظمة التحرير الفلسطينية.
«العلي» تحوّل، دون أن يدرى حينها، إلى جزء من سيناريو كبير وخطير، لكن الإخراج المسرحى الإسرائيلى لعملية اغتياله، وسط لندن عام 1987، تعمّد بالأساس تشويه المنظمة وزعيمها ياسر عرفات. وقد سقط فى فخّ الرواية الإسرائيلية من يصدّقون الآن رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وهو يرشّح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لجائزة «نوبل» للسلام!
تجاهل مروّجو الرواية الإسرائيلية رمزية «العلي» وصداقاته الوثيقة بقادة المنظمة، التى كانت كافية منذ اللحظة الأولى لتكذيب السيناريو الإسرائيلي، الذى حاول جعلها عملية تصفية «داخلية – انتقامية»، رغم أن فريق الإشراف الإسرائيلى على التصفية «آرى ريغيف، يعقوب براد، وبشار سمارة، الذى كان يدير محطة الاستخبارات الإسرائيلية فى لندن»، استغلّ عميلاً فلسطينيًا «كان يتنقّل بين بيروت وتونس وباريس، ولندن لأداء مهام مشبوهة لصالح الموساد»، فسرّب للجهاز معلومة تبدو بسيطة: «انتقادات فلسطينية لرسوم ناجى العلي»، فوظّفتها الاستخبارات الإسرائيلية فى تنفيذ عملية الاغتيال ومحاولة إلصاقها بالغير!
تم تنفيذ عملية اغتيال «العلي» فى 22 يوليو عام 1987، لكنها أودت بحياته فى 29 أغسطس 1987 بعد غيبوبة استمرت 39 يومًا، لكن صناعة أجواء «الاحتقان» لا تنفصل عن تاريخين مهمين فى الداخل الفلسطيني، يفسّران إلى حدّ بعيد دلالة التوقيت: «8 ديسمبر 1987، حيث تعمّدت إسرائيل إشعال فتيل الانتفاضة الأولى 15 ديسمبر 1987، الإعلان عن تأسيس حركة حماس، وتداعياتها الكارثية لاحقًا».
إذن، كانت تصفية ناجى العلى جزءًا من عملية التمهيد السلبى لـ»شيطنة» منظمة التحرير الفلسطينية؛ مرجعية قوى الثورة «الفصائل والتنظيمات الفلسطينية التى انخرطت فى الكفاح المسلح والنضال الوطنى ضد الاحتلال الإسرائيلي، وذلك فى إطار المشروع التحررى الذى تبلور مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة فى منتصف ستينيات القرن العشرين، بقيادة المنظمة». ورغم أن قوى الثورة الفلسطينية فصائل وحركات ذات توجهات أيديولوجية وسياسية مختلفة «فتح، الجبهتان الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين.. إلخ»، فإنها كانت تمثل المقاومة النوعية الحقيقية للاحتلال الإسرائيلي، وامتد تأثيرها إلى ساحات الشتات والمخيمات، كما لعبت دورًا محوريًا فى تشكيل الوعى الفلسطيني، وتوجيه مسار النضال على مدار العقود التالية.
شكّلت منظمة التحرير الفلسطينية عبئًا استراتيجيًا متصاعدًا على إسرائيل منذ انطلاقتها فى منتصف ستينيات القرن العشرين، بفضل قدرتها على نقل الصراع إلى الساحة الإقليمية، وتوسيع رقعة العمل الفدائى خارج حدود الأراضى المحتلة، فضلاً عن نجاحها فى اكتساب شرعية دولية كحركة تحرر وطني. ولعبت مصر دورًا محوريًا فى تشكيل المنظمة، باعتبارها الحاضن الإقليمى الأول للمشروع الوطنى الفلسطيني، بعدما سعت القاهرة إلى توحيد الفصائل تحت مظلة واحدة تُعبّر عن الهوية الفلسطينية وتُعيد الاعتبار للقضية على الساحة الدولية.
أدى تزايد تأثير المنظمة داخل الأرض المحتلة، خاصة فى الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى تقويض مشاريع إسرائيلية هدفت إلى تطويع الفلسطينيين «الإدارة المدنية، الحكم الذاتى تحت الاحتلال»، ما جعل المنظمة مركز الثقل الوطنى الفلسطيني، ومصدر التهديد الأهم للأمن الإسرائيلى والسيادة المفروضة فى الداخل. ولا يمكن التغاضى عن شرارة الانتفاضة الأولي، التى انطلقت فعليًا فى 8 ديسمبر 1987 من مخيم جباليا بقطاع غزة، عقب حادثة دهس متعمدة ارتكبها سائق شاحنة إسرائيلى بحق مجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز «إيريز» الفاصل بين القطاع وبقية الأراضى الفلسطينية المحتلة؛ قبل أن تتحول الحادثة إلى انتفاضة استفادت منها فرع جماعة الإخوان فى فلسطين عبر تشكيل حركة «حماس» بعد أيام قليلة من اندلاعها.
المولود المشبوه
كان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى «انتفاضة الحجارة» فى ديسمبر 1987، فرصة كبيرة لإسرائيل، التى راحت توظّف الحراك الشعبى بصورة غير مباشرة للدفع بقوى جديدة ذات طابع ديني؛ فتم الإعلان عن تأسيس حركة «حماس» بعد تسهيلات إسرائيلية واضحة للنشاط الدعوى والاجتماعي، منذ أوائل الثمانينيات، كمناهض للنفوذ الوطنى الذى تمثله منظمة التحرير الفلسطينية.
دُعم تأسيس حركة «حماس» من خلال الجمعيات والمؤسسات المرتبطة بجماعة الإخوان، وكان لافتًا أن الإعلان عن اسم «حماس» ظهر لأول مرة عبر منشورات صادرة عن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، لأغراض دعائية وسياسية وميدانية؛ وفى الوقت الذى كان الجيش الإسرائيلى يُركّز ضرباته على حركة «فتح» وقوى منظمة التحرير، كان يتم الترويج إعلاميًا للحركة الجديدة.
وزّعت حركة «حماس» بيانها التأسيسى فى 15 ديسمبر 1987، تلاه إصدار ميثاق الحركة فى 18 أغسطس 1988؛ قبل أن تتحول إلى أداة استثمار سياسي-ميدانى إسرائيلي، عبر ترميزها كبديل داخلى فى فلسطين قادر على منافسة منظمة التحرير فى تمثيل الشارع والقضية، بالتزامن مع تكثيف إسرائيل، لاحقًا، استهداف قوى الثورة الفلسطينية المنضوية تحت مظلة المنظمة.
تغاضت إسرائيل نسبيًا عن أنشطة «حماس» فى مراحلها الأولي، وسعت إلى تغذية الانقسام الوطنى الفلسطيني؛ فنتج عن ذلك صراع مزدوج: ضد الاحتلال من جهة، وبين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة أخري. وقد تحقق لإسرائيل هدفها الاستراتيجى بتحويل التناقض الرئيسى من مواجهة الاحتلال إلى تناقض داخلى فلسطيني، ما ترك أثرًا عميقًا، وتحولاً جذريًا، وشرخًا إستراتيجيًا دائمًا انعكس سلبًا على تماسك المشروع التحررى الفلسطيني.
تعمدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية سياسة «الانفتاح الانتقائي» على ناشطين إسلاميين فى قطاع غزة، من أجل خلق بدائل محلية لمنظمة التحرير، وإعادة تشكيل البيئة السياسية الفلسطينية بما يتماشى مع مصلحة إسرائيل؛ وكان من بينها لقاءات مباشرة وغير مباشرة. ورغم محاولات نفى اللقاء الشهير بين محمود الزهار «أحد أهم مؤسسى حماس» وإسحاق رابين، وزير الدفاع الإسرائيلى آنذاك، فقد كان ذلك مثالاً صارخًا على مشاورات غير رسمية منحت تيار الإخوان الفلسطينى غطاءً سياسيًا وأمنيًا لتصعيد حضوره المجتمعى والتنظيمي، على حساب القوى الوطنية التقليدية.
فتنة «عزام»
تعالوا نعود قليلاً إلى الوراء.. إلى نهاية السبعينيات، عندما كانت أجهزة استخبارات أمريكية-أوروبية تبحث عن طريقة «غير مكلفة» لاستنزاف الاتحاد السوفيتي؛ وقد لعب الدور الأخطر رجلٌ فلسطينى المولد من «جنين»، يحمل أفكارًا أممية تهمّش الانتماء الوطنى وتخدم أجندات خارجية، اسمه «عبدالله عزام»، الذى كان يخطو بثقة بين معسكرات مدينة «بيشاور» الباكستانية، القريبة من الحدود الأفغانية؛ والتى تحوّلت خلال الثمانينيات إلى مركز رئيسى لتجميع وتدريب وتوجيه ما يسمى بـ»المجاهدين: العرب والأفغان»، ضد الاتحاد السوفيتى عام 1979.
حينها، أدركت إسرائيل مبكرًا أهمية نقل بندقية «الإسلام الجهادي» إلى خارج فلسطين، لخدمة حليفتها الولايات المتحدة فى حربها الباردة ضد الاتحاد السوفيتي. كما أن تلك الخطوة تنسجم بالكامل مع العقيدة الأمنية الإسرائيلية فى تفتيت الخصوم، وتوجيه طاقتهم إلى ساحات بعيدة لا تهدد وجودها، بل تؤمّن جبهتها الداخلية لسنوات قادمة؛ لذا ساعدت «عبدالله عزام» بطريق غير مباشر فى تشييد واحدة من أخطر شبكات التعبئة فى القرن العشرين.
لم يكن «عبدالله عزام» مجرد منظّر شرعى وتنظيمى يروّج لفكرة «الجهاد»، بل كان وسيطًا سياسيًا-أمنيًا، جمع بين دعم أمريكى غير معلن، وأموال عربية متدفقة على المشروع الجديد، عبر ما يسمى بمكتب «الخدمات» الذى أنشأه فى باكستان «غرفة عمليات دولية لحرب بديلة»، وبدأت تتشكل منه أولى ملامح الجهاد العالمي، من خلال ما تم الإعلان عنه بعدها بسنوات: تنظيم «القاعدة»، الذى شارك عزام فى تأسيسه، ثم انقلب عليه فى سياق الصراع على الزعامة.
وسط هذه الأجواء، لم تكن «حماس» قد وُلدت بعد، لكن الأرض كانت ممهدة لجماعة الإخوان فى فلسطين، التى كانت تنشط دعويًا، وتتلقى تسهيلات ضمنية من الاحتلال، وتتحرك فى المساجد والمخيمات دون كثير من القيود؛ على حساب الفصائل التابعة لمنظمة التحرير، لكن عبدالله عزام «المُجند، والمنظّر، والمُحرّض» لعب دورًا خبيثًا فى تعبئة آلاف الشباب المسلمين، من بينهم فلسطينيون كُثُر، للذهاب إلى أفغانستان تحت شعار «الجهاد العالمي». وقد استفادت إسرائيل من مشروعه، أولاً: عبر تحويل مركز الثقل المقاوم من فلسطين إلى أفغانستان، حيث كانت ترى فى كل شاب فلسطينى يتجه إلى قندهار أو بيشاور خروجًا من معادلة المقاومة المباشرة، لأن بقاءه فى الداخل الفلسطينى كان يُعد ترسيخًا للنهج الوطنى المقاوم تحت راية منظمة التحرير.
أما ثانى الفوائد الإسرائيلية، فكانت فى إضعاف مركزية القضية الفلسطينية داخل الوعى الجمعى الإسلامي، لحساب اتجاه أوسع وأقل التزامًا بالسياق المحلي، عبر التغنّى بـ»نُصرة الأمة» و»العدو البديل»؛ لكنها تيارات كانت تُدار وتُموّل من خارج فلسطين، وثالثًا، فتمثل فى ترسيخ الانقسام داخل الجبهة الفلسطينية نفسها، من خلال دفع التيار الإسلامى إلى أولوية خاصة، منفصلة فى الرؤية والتكتيك عن التيارات الوطنية والقومية، التى ظلت تعتبر الاحتلال الإسرائيلى هو العدو الرئيسى للأمة.
تحريك الأدوات
حين اندلعت الانتفاضة الأولى فى ديسمبر 1987، لم يكن غريبًا أن تُسارع حركة «حماس» بالإعلان عن نفسها؛ فالبنية جاهزة، والخطاب متماسك، والفراغ الذى تركته منظمة التحرير الفلسطينية بفعل الحصار الإسرائيلى لأنشطتها «ومخطط تشويهها الإقليمى والدولي»، كان يحتاج إلى من يملؤه. وهكذا، وُلدت «حماس» كأحد نتائج المشروع الأوسع الذى قام بهندسته عبدالله عزام «أحد تلاميذ مدرسة الإخوان، ومروج لخطاب يُزاوج بين أفكار الجماعة والتيار السلفى الجهادى فى ساحات القتال المفتوحة، يستثمره الإخوان فى مشروعهم العابر للحدود»: توظيف الإسلام السياسى فى صراع إقليمي، بدعم استخباراتى عابر للحدود، ثم استدعاؤه لاحقًا إلى الساحة الفلسطينية كبديل محلي، قابل للتفكيك أو الاحتواء بأوامر من صنعوه.
أدى الدعم الإسرائيلى غير المباشر إلى اختلال ميزان القوى الميداني، وتغذية انقسام تدريجى داخل النسيج المجتمعى الفلسطيني، حيث كانت الغاية الإسرائيلية الأبعد من هذا الانفتاح المدروس هى تفكيك هيمنة منظمة التحرير، وإعادة تشكيل البيئة الفلسطينية من الداخل، عبر ضخّ مكوّن دينى «إخواني»، يمكن استثماره لاحقًا فى كسر المشروع الوطنى وتعديل قواعد الاشتباك. وقد تحقق ذلك فعليًا، حين دخلت الساحة الفلسطينية فى صراع داخلى مرير بين حركتى «فتح» و»حماس»، تُوِّج بالانقسام السياسى والجغرافى فى صيف 2007، عندما سيطرت «حماس» بالقوة المسلحة على كامل قطاع غزة.
ومنذ ذلك الحين، تكرّس الانقسام الفلسطينى واقعًا صلبًا، وأُعيد ترميز فلسطين إلى كيانين: «غزة» و»رام الله». وكان ذلك ذروة نجاح الإستراتيجية الإسرائيلية، التى استطاعت «بتكلفة منخفضة» تحويل التناقض الرئيسى من مواجهة الاحتلال إلى صراع داخلى فلسطينى طويل الأمد، أنهك المشروع الوطني، وأضعف الحضور الفلسطينى الموحّد فى المحافل الإقليمية والدولية.
«حنظلة» الخداع
إذن، فإن السفينة النرويجية «حنظلة»، التى انطلقت من ميناء «سيراكيوز» الإيطالى فى يوليو الماضى ضمن تحالف «أسطول الحرية»، فى مشهد بدا إنسانيًا على السطح، لا تُخفى التوظيف والحسابات السياسية الإخوانية، الخفية والمعلنة. فالجماعة التى احترفت المتاجرة بالقضية الفلسطينية، استغلت الرحلة كورقة رمزية جديدة تُكرّس بها نفسها وصيًّا على غزة، وتستثمر معاناة السكان لتحقيق مكاسب دعائية وتنظيمية؛ خاصة بعد أن أعادت تسمية السفينة «التى كانت تُعرف باسم: نافارن» فى عام 2023، لتصبح الواجهة الجديدة لتحالف مشبوه «أسطول الحرية» تتحكم فيه منظمات ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالإخوان.
تحالف «أسطول الحرية»، منذ تأسيسه عام 2010 على يد هيئة الإغاثة الإنسانية التركية «IHH»، لم يكن يومًا مبادرة إنسانية خالصة، بل أداة سياسية فى يد جماعة الإخوان وحلفائها؛ بأما النسخة الموسّعة من هذا التحالف، فتضمّ خليطًا من الكيانات التضامنية العابرة للقارات «اللجنة الدولية لكسر الحصار، القارب الأمريكي، هيئة الإغاثة التركية، التحالف الجنوب أفريقي، وغيرها»، تتحرك ضمن خطاب موحّد يخترق المفاهيم الوطنية لمصلحة مشروع سياسى مؤدلج، لا يستهدف إغاثة غزة، بل تحويلها إلى منصة إعلامية وإيديولوجية تستثمرها جماعة الإخوان كلما ضاق عليها الخناق، لتصفية حسابات مع الدول المستهدفة، فى سياق يُكرّس الانقسام ويُضعف القرار الفلسطينى لصالح إسرائيل، بينما ترفع الإخوان شعارات فارغة عن المقاومة والأخلاق.
واقعة «حنظلة»، فى رمزية: الاسم، توقيته، وتوظيفه، ليست مجرد حدث عابر فى بحر الشعارات المتلاطمة، بل مرآة كاشفة لتحوّلات أعمق، شهدتها القضية الفلسطينية، حين تم استبدال المسار الوطنى بمسارات أيديولوجية عابرة، لا ترى فلسطين إلا بوابة عابرة نحو أجندات كبري، ولعل استعادة حكاية «ناجى العلي» وطفله الصامت، يُعيد التذكير بما أُريد له أن يُنسي: أن المعركة لم تكن فقط ضد احتلال، بل أيضًا ضد محاولات اختطاف الوعي، وتزييف رموز المقاومة، وتفريغها من معناها، فمن لم يقرأ مشهد 1987 جيدًا، لن يفهم لماذا ظلّ «حنظلة» يدير ظهره للعالم، وربما لهذا السبب بالذات، لا يزال واقفًا، لاجئًا، وشاهدًا.
ما جرى أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، مؤخرًا؛ بقيادة الإخوانى رائد صلاح «قائد ما يُسمّى بالحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر» ونائبه كمال الخطيب، يكشف حقيقة التنسيق الإخواني-الإسرائيلي؛ إذ سمحت لهم حكومة بنيامين نتنياهو بالتظاهر ضد مصر، بزعم المطالبة بفتح معبر رفح، رغم أن المعبر مفتوح من الجانب المصرى ويُغلق فقط من الجانب الإسرائيلي. هذا المشهد يفضح تلاعبًا مكشوفًا: تحالف يُبرّئ الاحتلال ويحمّل مصر المسئولية، فى واقعة تُكذّب الخطاب الإخوانى المعادى لمصر «شعبًا ومؤسسات» طوال 93 عامًا، هى عمر الجماعة الإرهابية.