من فوق ركام غزة، حيث الموت اليومى بات خبزاً للفلسطينيين، ومن بين أروقة الكنيست الإسرائيلى الذى يتفنن فى سنّ قوانين الغطرسة، يصعد المشهد الفلسطينى إلى ذروة جديدة من التراجيديا السياسية والإنسانية، كأننا نعيش لحظة فاصلة لم يُكتب نصّها الأخير بعد.
إن ما يجرى فى غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل هو جريمة موثقة بالصوت والصورة، وبأرقام الشهداء والجوعى والمشردين، فبعد أكثر من عشرين شهراً من الحرب المفتوحة، لم يعد هناك ما يمكن تسميته بـ»الحياد الإنسانى»، فالغذاء شحيح، والماء ملوث، والكهرباء مقطوعة، والدواء ممنوع.
الطفل الذى يستيقظ كل صباح على صراخ أمه المذبوحـة، لا يحتــاج إلى قرار دولى، بل يحتاج إلى ضــمير حيّ، والمدرسة التى تحولت إلى ملجأ ثم إلى هدف قصف، لا تطلب إدانة، بل تطلب نجدة.
وفى الضفة الغربية، حيث يتبقى بقية من حلم.. فالمأساة لا تكتمل إلا عندما تنتقل من الجنوب إلى الضفة الغربية، حيث أقدم الكنيست الإسرائيلى على تصويت تاريخى كارثى بضم أجزاء واسعة من الضفة، فى سابقة تمثل نسفاً عملياً ونهائياً لاتفاق أوسلو لعام 1993، الذى وُقّع وقت أن كان العالم لا يزال يؤمن بشىء اسمه «سلام».. ومَن يعرف تفاصيل اتفاق أوسلو، يدرك أنه رغم هشاشته، كان يمثل نقطة بداية لمسار تفاوضى، ورمزاً لإمكانية التسوية، أما اليوم.. فإن الكنيست بمباركة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، قرر قتل هذا الاتفاق، وإعلانه فى عداد الأموات.
إن قرار الضم لا يُنهى فقط مسار التسوية، بل يُنهى أيضاً فكرة حل الدولتين التى طالما تغنى بها المجتمع الدولى، فكيف يمكن أن تقام دولة فلسطينية على أراضٍ تُلتهم شبراً بعد شبر، ونهاراً بعد ليل؟
وسط هذا المشهد القاتم، تبرز مبادرات أوروبية متأخرة لكنها لافتة، فاعتراف كل من «فرنسا، إيرلندا، وإسبانيا، والنرويج مؤخراً بدولة فلسطين، ليس مجرد إجراء دبلوماسى روتينى، بل كسرٌ لحاجز الصمت والاصطفاف الأعمى خلف واشنطن.. ورغم أن الموقف الأوروبى ما زال منقسماً، فإن هناك تحولاً نوعياً فى المزاج السياسى الغربى، يُعبّر عن ضيقٍ متزايد بسياسات الاحتلال، وعن رغبة كامنة فى تصحيح المسار الأخلاقى للتاريخ.. هذا التحول وإن كان محدود الأثر الفورى، إلا أنه يحمل رسائل استراتيجية بعيدة المدى:
أولها: أن الاحتلال لم يعد يحظى بالحصانة الكاملة فى الغرب.
وثانيها: أن صوت فلسطينى يعلو، ولو وسط الركام.
إن ما يحدث اليوم هو فصل آخر من النكبة المستمرة، لكنه أيضاً صفحة جديدة يُمكن أن يُكتب فيها شىء مختلف، لو توفرت إرادة المواجهة والصــمود.. فالتاريخ لا يرحم من تخلّوا عن دورهم، ولا من صمتوا وقت الألم.. لكنّ الشعوب لا تموت.. والحق لا ينسى.