نحن نعيش في زمن يسميه بعض أهل الحكمة بـ«عصر المشهود» – عصر الشهادة والمراقبة.
فالعيون الرقمية تحيط بنا من كل زاوية وكل لحظة؛ هواتف ذكية، كاميرات، ذكاء اصطناعي، تقنيات التعرف على الوجه، والتتبع الحي- كلها تخبرنا أن لا شيء من أفعال الإنسان مخفي بعد الآن.
ولكن! هذه الحقيقة لم تكن جديدة على من قرأ القرآن، فقد أعلن الله ذلك منذ أكثر من 1400 سنة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ نظام التسجيل السماوي- «كراماً كاتبين»، ولكل إنسان ملكان كاتبان، يجلس أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، يسجلان كل فكرة، وكل كلمة، وكل فعل.
ليسوا بحاجة إلى كاميرات أو أجهزة، بل هو نظام رباني روحي معصوم من الخطأ، دقيق وعادل، ولا حاجة فيه إلى كهرباء أو تخزين بيانات.
وفي يوم القيامة سيُعرض كل ذلك في كتاب مبين: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾.
العالم الرقمي- مرآةٌ لفهم القرآن
في عالمنا اليوم، كل حركة للإنسان يشهد عليها الشهود الرقميون. كل شارع، كل متجر، كل هاتف — أصبح عينًا راصدة.
وذلك يُعيدنا إلى التنبيه الرباني: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ويقول العلماء اليوم: «لا خصوصية بعد اليوم» أليس هذا ما أخبرنا به النبي ﷺ منذ قرون؟ يوم القيامة- لحظة المحاسبة الذاتية، ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ ۚ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾.
- فهل سيكون هذا الكتاب رقميًّا؟
- هل سيُعرض على شاشة روحية؟
- الله أعلم- لكن الواقع الرقمي المعاصر يجعلنا أقرب لفهم هذه الحقيقة الإلهية العظيمة.
النبي سليمان عليه السلام.. لغات المخلوقات والتعلم الآلي الحديث
يتحدث القرآن عن علم النبي سليمان عليه السلام في لغات الطير والحيوان: ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾.. ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ… فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا﴾، هذه ليست قصة رمزية — بل هي علمٌ لدنّي، ووحيٌ إلهي، ومعجزةٌ حقيقية.
واليوم؟
- تقوم آلات الذكاء الاصطناعي بترجمة أكثر من 100 لغة
- توجد أجهزة تفسّر إشارات الحيوانات
- تكنولوجيا قادرة على تحليل المشاعر من الوجوه والأصوات
- أفلا يُشبه هذا علم سليمان عليه السلام؟
- أليست هذه ومضةٌ من العلم الإلهي الذي يُكشف للبشر بإذن الله؟
التقدّم العلمي- شهادةٌ على حكمة روحية، كلما تقدم الإنسان في الاكتشافات والاختراعات- فهو في الحقيقة يكشف أسرار خالقه الذي قال: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ… وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ القلم، اللوح، العلم، اللغة، الصوت- كلها تجري بأمر الله تعالى.
الحقيقة الرقمية الروحية- الحقيقة الكاملة، ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ…﴾
فهل ندرك أن:
- كلماتنا على مواقع التواصل محفوظة؟
- ظلمنا الخفي مسجّل؟
- دعواتنا السرية مكتوبة؟
نعم! كل شيء مكتوب ومسجّل.
الحاجة إلى الوعي والمحاسبة واليقظة الروحية، الخصوصية قد انتهت، لكن في عالم الروح- لم يكن هناك شيءٌ مخفيٌّ أبدًا.
فلنُجمّل قلوبنا، ونطهّر ألسنتنا بالصدق واللين، ونُخلِص أعمالنا لله دون رياء.
حتى إذا فُتح كتاب أعمالنا نبتسم كما ابتسم سليمان عليه السلام، لا أن نرتجف كما يرتجف المجرمون.
هذا عصرٌ رقميٌّ، لكن نظام الله روحيٌّ منذ الأزل، مرةً باللوح والقلم، مرةً بلسان الملائكة، واليوم بلغة الشهادات الرقمية، يقول الله لنا: «إني أراكم، وأسمعكم، وكل شيءٍ محفوظ».
فيا ابن آدم- دع الغفلة، وافتح عين البصيرة.