ما إن يُرفع الستار ، وتبدأ أولى مشاهد مسرحية «الملك لير» على خشبة المسرح القومى، حتى يلوح فى الأفق مشهد ثقافى أصيل ، يعيد إلى الأذهان الزمن الذى كانت فيه خشبة المسرح منبراً للفكر والوعى ، ومجالاً لتقديم الأعمال الكلاسيكية الجادة التى كُتب لها الخلود ، إنها لحظة يستعيد فيها المسرح هيبته ودوره التاريخى فى إحياء تراث كبار الأدباء والمفكرين الذين أثروا الوجدان الأدبى والفنى للأمة .
«الملك لير» ليست مجرد مسرحية ، بل مرآة صادقة تعكس صراع الإنسان مع ذاته ومن حوله ، فى رحلة مؤلمة للبحث عن الحكمة بعد فوات الأوان ، إنها واحدة من أعظم التراجيديات التى كتبها وليم شكسبير ، وظلت طوال أربعة قرون مصدر إلهام لا ينضب للمسرح العالمى ، واليوم ، تعود إلى خشبة المسرح القومى المصرى فى عرض استثنائى يُحيى النص الكلاسيكى بروحٍ معاصرة ، من خلال أداء آسر للنجم الكبير يحيى الفخرانى ، الذى بلغ العقد الثامن من عمره ، فأتت ملامحه وتفاصيل أدائه تجسيداً صادقاً لشيخوخة الملك وانكساره ، وأعطت للنص عمقاً إنسانياً مضاعفاً .
كتب شكسبير «الملك لير» بين عامى 1605 و1606م ، وتُعد من أعمدة مسرحه التراجيدى إلى جانب «هاملت» ، و»عطيل» ، و»ماكبث» .
وتستند المسرحية إلى الأسطورة البريطانية القديمة للملك «لير» ، الذى قرر تقسيم مملكته بين بناته الثلاث بحسب ما يُبدينه من حب له ، لكن قراره العاطفى ينقلب عليه حين يقوده إلى خيانة مريرة من أقرب الناس إليه ، ولاسيما ابنتيه الكبريين اللتين تملقتا فى إظهار حبهما له ، بينما قدمت الصغرى حباً صادقاً طبيعياً لم يُرضِ الأب ، فاستبعدها من دائرة القسمة ، لتبدأ رحلة قاسية من فقدان السلطة ، والكرامة ، والعقل ، قبل أن يكتشف وقد سقط القناع وتبددت الأوهام ثمن الثقة العمياء ، وغدر الأقرباء .
تتميز مسرحية «الملك لير» بتكامل عناصرها المسرحية ، التى اجتمعت فى هذا العرض لتصنع حالة من الإبهار البصرى والوجدانى ، تُشعر المتفرج بأنه جزء من المأساة لا مجرد شاهد عليها .
وجاءت رؤية المخرج شادى سرور مشبعة بالحس التراجيدى ، حيث اعتمد على تجريد الزمان والمكان ، دون الإخلال بجوهر النص الشكسبيرى ، المَشاهـِد تُبنى وتتداعى بخفة محسوبة ، تُبرز صراع الإنسان مع الهزيمة الداخلية أكثر من الحدث السياسى الظاهرى .
ورغم أن الدور المحورى كان لبطل العرض الذى قدّم أداءً استثنائياً عمّق من تأثير الشخصية وجذب انتباه الجمهور ، إلا أن الأداء الجماعى تميز بالانسجام والانضباط ، ما جعل الشخصيات الثانوية تُسهم فى تشكيل النسيج العام للمأساة .
وهكذا تكشف العناصر المسرحية فى «الملك لير» أنها لم تكن مجرد أدوات مكمّلة ، بل كانت أبطالاً صامتين ساهموا فى صناعة عرضٍ ينتمى بجدارة إلى تقاليد المسرح الجاد ، ويؤكد أن المسرح القومى لا يزال قادراً على احتضان عظمة النص حين تتوفر له الأدوات ، وإخلاص النوايا ، ليعود مسرح الدولة إلى عرشه بكل ما يحمله من تاريخ وهيبة .
تحية لكل من يقدّم عملاً جاداً يعيد الروح إلى «أبوالفنون» ، ويجعل خشبته نابضة بالحياة من جديد .
تحية لأجيال تسلّم أجيال ، تصرّ على أن يبقى المسرح شاهداً حياً على عظمة الفن المصرى ، ومرآة مشرقة لمبدعيه الذين حملوا شعلته فى دروب الإبداع والعطاء .
تحية إلى وزارة الثقافة ، ووزيرها الراقى أحمد فؤاد هنو ، الذى أعاد صياغة مسرح الدولة بروح معاصرة ، بل أعاد الجمهور إلى مقاعده ، شغوفا بالفن الحى والتجربة المباشرة .