لقد مثّلت ثورة 30 يونيو 2013 نقطة تحول جوهرية فى تاريخ مصر الحديث، لم يقتصر تأثيرها على المشهد الداخلي، بل امتد ليشكل دفعة قوية ومحورية فى مسار العلاقات الخارجية المصرية مع مختلف دول العالم. فبعد فترة من الاضطراب وعدم اليقين السياسى الذى أعقب 25 يناير 2011، وما شابها من ارتباك فى الدبلوماسية المصرية، جاءت ثورة 30 يونيو لتُعيد لمصر مكانتها وثقليها الإقليمى والدولي، مستندة إلى إرادة شعبية جارفة وتوجه سياسى واضح المعالم. هذه الإرادة الشعبية التى تجلت فى خروج الملايين للمطالبة بالتغيير، منحت القيادة السياسية الجديدة شرعية قوية وغير مسبوقة، كانت بمثابة حجر الزاوية فى بناء جسور الثقة مع القوى الإقليمية والدولية. استطاعت الدبلوماسية المصرية، مدعومة بهذه الشرعية، أن تُصحح المسارات الخاطئة وأن تُقدم رواية واضحة ومقنعة للعالم حول طبيعة ما حدث فى مصر، إنها ثورة شعبية حمت الدولة من الانهيار وحافظت على هويتها. هذا التوضيح الحيوى كان له بالغ الأثر فى تبديد المخاوف وسوء الفهم الذى ساد فى بعض العواصم الغربية فى البداية، وفتح الباب أمام استئناف التعاون وبناء شراكات جديدة على أسس أكثر رسوخًا وواقعية.
لقد قامت السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو على مبادئ أساسية أبرزها احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وتعزيز التعاون الاقتصادى والتنموي، ومكافحة الإرهاب والتطرف، وحماية الأمن القومى المصرى والعربي. هذه المبادئ، التى تتوافق مع القانون الدولى ومصالح الدول، لاقت قبولاً واسعًا لدى العديد من الشركاء الدوليين. على الصعيد العربي، استعادت مصر دورها الريادى والمحورى فى المنطقة، وأصبحت شريكًا أساسيًا فى مواجهة التحديات المشتركة كالإرهاب والصراعات الإقليمية. تعززت العلاقات مع دول الخليج العربى بشكل كبير، وارتفعت وتيرة التنسيق والتعاون فى مختلف المجالات، الاقتصادية والأمنية والسياسية، مما أسهم فى تحقيق استقرار إقليمى نسبي. كذلك استعادت مصر مكانتها فى الجامعة العربية وأصبحت صوتًا فاعلاً ومؤثرًا فى قضايا المنطقة. أما على الصعيد الافريقي، فقد شهدت العلاقات المصرية – الافريقية انتعاشة غير مسبوقة، حيث كثفت مصر من حضورها فى المحافل الافريقية، وعززت من دورها فى الاتحاد الافريقي، وقدمت دعمًا فنيًا ولوجستيًا للعديد من الدول الافريقية فى مجالات التنمية والبنية التحتية ومكافحة الإرهاب. تجسد ذلك فى زيارات مكثفة للرئيس السيسى إلى الدول الافريقية، واستضافة مصر لعدد من القمم والمؤتمرات الهادفة إلى تعزيز التعاون الافريقى المشترك. هذا التوجه نحو افريقيا يعكس فهمًا عميقًا للأهمية الإستراتيجية للقارة لمصر، سواء من الناحية الاقتصادية أو الأمنية.
لم يقتصر تعزيز العلاقات الخارجية على المحيطين العربى والافريقي، بل امتد ليشمل القوى الدولية الكبري. فمع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع وجود بعض التباينات فى وجهات النظر فى البداية، عملت الدبلوماسية المصرية على إعادة بناء الثقة وترسيخ المصالح المشتركة، خاصة فى مجال مكافحة الإرهاب الذى أصبح تحديًا عالميًا. شهدت العلاقات تطورًا إيجابيًا تدريجيًا، واستمر التعاون العسكرى والاقتصادى بين البلدين. ومع روسيا، شهدت العلاقات تطورًا ملحوظًا وتقدمًا كبيرًا فى العديد من المجالات، أبرزها التعاون العسكرى والفني، والتبادل التجاري، ومشاريع الطاقة النووية. هذا التقارب مع روسيا جاء فى إطار سياسة مصرية لتنويع الشراكات الدولية وعدم الاعتماد على قطب واحد. أما مع دول الاتحاد الأوروبي، فقد حرصت مصر على تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، وبناء شراكات إستراتيجية فى مجالات مثل الطاقة ومكافحة الهجرة غير الشرعية. كما عملت على توضيح التطورات الداخلية فى مصر وتبديد أى مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، مؤكدة التزامها بالمضى قدمًا فى مسار الإصلاحات. كذلك شهدت العلاقات مع دول آسيا الصاعدة مثل الصين والهند تطورًا كبيرًا، حيث أصبحت الصين شريكًا اقتصاديًا وتجاريًا واستثماريًا مهمًا لمصر، وتم توقيع العديد من الاتفاقيات والمشروعات المشتركة، فى إطار مبادرة «الحزام والطريق».
فى جوهر الأمر، أعادت ثورة 30 يونيو لمصر قدرتها على صياغة سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة، تقوم على تحقيق المصالح الوطنية العليا، وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمى والدولي. لقد أدركت القيادة المصرية أن القوة الخارجية تنبع من الاستقرار الداخلي، وأن التنمية الاقتصادية هى الركيزة الأساسية لأى دبلوماسية ناجحة. لذا ترافقت الجهود الدبلوماسية مع جهود داخلية حثيثة لتحقيق الاستقرار السياسى والاقتصادي، ما أعطى مصداقية وقوة للمواقف المصرية على الساحة الدولية. أصبحت مصر صوتًا مسموعًا فى المحافل الدولية، تدافع عن مصالحها ومصالح الأمة العربية والافريقية، وتسعى إلى حلول سلمية للنزاعات، وتؤمن بالتعددية القطبية فى العلاقات الدولية. إن هذا الدور المتنامى لمصر على الساحة الدولية، والذى بدأ يتجلى بوضوح بعد ثورة 30 يونيو، يعكس استعادة للثقة بالنفس، ووعيًا عميقًا بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وقدرة على التكيف والعمل بفاعلية فى عالم معقد ومتغير. لم تكن هذه العلاقات مجرد علاقات بروتوكولية، بل تحوّلت إلى شراكات إستراتيجية تعود بالنفع على الأطراف كافة، وتفتح آفاقًا جديدة للتعاون فى مختلف المجالات، سواء الاقتصادية، الأمنية، الثقافية، أو العلمية. وبهذا تكون ثورة 30 يونيو قد نجحت فى إعادة توجيه بوصلة السياسة الخارجية المصرية نحو مسار أكثر قوة وتأثيرًا وتوازنًا على الساحة العالمية.
وللحديث بقية