يكاد الموسم الزراعى الصيفى أن ينتهى، ويعد الفلاح الأيام ليجنى ثمار جهده، لتأتيه الضربة من حيث لا يحتسب، غياب الأسمدة المدعومة، ليصارع السوق السوداء، مطاردا شيكارة السماد، فى محاولة لاستمرار حياة المحصول قبل فوات الأوان.
يفترض أن تباع شيكارة السماد للمزارعين بسعر 250 جنيها، إلا أنها ندر توافرها فى أغلب أيام الموسم فى كثير من الجمعيات الزراعية، مما أجبر المزارعين على اللجوء للسوق السوداء، حيث ارتفعت الأسعار لتتراوح بين 1400 و1500 جنيه للشيكارة، فى واحدة من أشد صور الاحتكار، التى وجب التصدى لها بقوة وحزم، ليس حماية للفلاح وحده وإنما للمجتمع ومقدراته.
مصر تعتمد على الزراعة فى توفير الغذاء لأكثر من 105 ملايين مواطن، والإنتاج المحلى يمثل أكثر من 60 ٪ من استهلاك الحبوب والخضراوات، وفق الإحصاءات الرسمية.
وأى خلل فى الإنتاج، خاصة فى المحاصيل الصيفية مثل الذرة والأرز والطماطم وغيرها، سيؤدى إلى فجوة فى السوق المحلية وارتفاع فى الأسعار، ما سيثقل كاهل المواطن.. ونحن نستورد بالفعل ما يزيد على 12 مليون طن من القمح والذرة وفول الصويا، ما يجعل الاعتماد على الإنتاج المحلى أولوية لا تحتمل النقاش، وتحتاج لبيئة حاضنة للحفاظ عليها من ضعاف النفوس.. يدرك الجميع ان دعم الأسمدة فى مصر لا يغطى كل احتياجات السوق الزراعية، وانها مخصصة فى الأصل لصغار الفلاحين الذين لا يملكون القدرة على مجاراة الأسعار العالمية للأسمدة، ورغم أن وزارة الزراعة تعلن سنويًا عن توزيع أكثر من 7 ملايين طن من الأسمدة الأزوتية (يوريا ونترات)، إلا أن تقارير لجنة الزراعة فى مجلس النواب أكدت أن ما يصل للفلاحين لا يتجاوز 40 ٪ فقط من الحصص المقررة فى كثير من المحافظات، ما يفتح الباب أمام التلاعب، ويستدعى الانتباه.
ارتفاع أسعار السماد فى السوق السوداء بنسبة تتجاوز 500 ٪ مقارنة بالسعر الرسمى، يدفع كثيرًا من الفلاحين، خاصة من يزرعون الذرة والقطن والأرز، إلى تقليص المساحات المزروعة أو الاقتراض بأسعار فائدة عالية لتغطية تكلفة السماد، وهو ما يعود بارتفاع اسعار المحاصيل ذاتها.
وفقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء نحو 70٪ من الحائزين الزراعيين فى مصر يمتلكون أقل من فدانين، وهم الأكثر تضررا من هذه الأزمة، لأنهم لا يملكون أية ثروات لتعويض الخسائر أو حتى التفاوض مع التجار.
فلماذا لا يتم ربط صرف السماد بكارت الفلاح الذكى بطريقة شفافة؟ ولماذا لا يطلق خطًا ساخنًا فعليًا لتلقى شكاوى المزارعين؟ وأين ذهب كل طن من السماد المدعوم؟ من استلمه؟ ومن باعه خارج المنظومة؟ وماذا نحن فاعلون؟
نحتاج لتحقيق عاجل فى أسباب تأخر صرف الحصص المدعومة، ومحاسبة المسئولين عن تسريبها، وإعادة هيكلة منظومة التوزيع، بحيث لا تمر عبر حلقات الفساد المعتادة، ولتشديد الرقابة على الجمعيات الزراعية ومخازن شركات الأسمدة الكبرى، مع إصدار تقارير دورية توضح نسب التوزيع الفعلية، وإنشاء هيئة رقابية مستقلة لمتابعة منظومة دعم الأسمدة، وتحديد مسئوليات واضحة للمحافظات والإدارات الزراعية.
إننا نذكر غياب الأسمدة المدعومة لم يعد أزمة تخص الفلاح فقط، بل أصبح خطرًا مباشرًا على الأمن الغذائى للمواطن، الفلاح لم يعد قادرًا على الإنتاج، والمواطن لم يعد قادرًا على الشراء، وإذا لم تتحرك الحكومة لإصلاح هذه المنظومة سريعًا، فإننا سنشهد تراجعًا جديدًا فى الإنتاج الزراعى، وارتفاعًا فى أسعار الغذاء.