أنهى الرئيس الأمريكى ترامب شهره السادس فى البيت الأبيض هذا الأسبوع، بإصدار قرار بسحب عضوية بلاده من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ـ اليونسكو ـ بدعوى أن استمرار هذه العضوية «لا يصب فى المصلحة الوطنية الأمريكية» على حد تعبير المتحدثة الرسمى باسم وزارة الخارجية الأمريكية.
فى وجود الرئيس ترامب، لم يعد أحد يدهشه صدور قرارات بالانسحاب الأمريكى من عضوية منظمات أو اتفاقيات دولية، أو التهديد بذلك، بنفس هذه الدعوي.
فعل ذلك فى فترة رئاسته الأولي، فحسب عضوية بلاده من الاتفاقية العالمية للمناخ، ومن الاتفاق النووى مع إيران، وهدد بالانسحاب من عضوية حلف الأطلنطي، ومن الاتفاقيات التجارية لأمريكا الشمالية «نافتا» التى تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، ومن المماثلة لها التى تضم دول المحيط الهادى والباسفيك.
وفيما عدا الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، كان تفسير «المصلحة الوطنية الأمريكية» الذى استند إليه قرار الانسحاب أو التهديد بالانسحاب، واحداً لم يتغير، وهو أن هذه الاتفاقيات مجحفة بالولايات المتحدة، بل وتحقق مصالح الآخرين على حسابها من الناحية المادية البحتة، وهو نفس الدافع الذى استند إليه الرئيس الأمريكى فى حربه التجارية الحالية مع العالم باستخدام سلاح التعريفة الجمركية.
لكن قرار الانسحاب من عضوية منظمة اليونسكو يقدم تفسيراً جديداً «للمصلحة الوطنية الأمريكية»، وإن لم يكن مفاجئا، لا يستند إلى رغبة الرئيس فى تصحيح اختلالات فى موازين تجارة بلاده مع العالم، ولا جنى مليارات الدولارات وضخها فى اقتصاد بلاده لتحقيق شعاره «أمريكا عظيمة مجدداً».
فى فبراير الماضي، كلف الرئيس الأمريكى إدارته بفحص ومراجعة «الوجود الأمريكى فى منظمة اليونسكو» والكشف، بصفة خاصة، عن ما إذا كانت هناك أى «مشاعر معادية لإسرائيل أو للسامية داخل المنظمة» وأمهل الإدارة تسعين يوماً لتقديم تقريرها إليه بنتيجة الفحص.
ملاحظة جانبية: «استحدث الرئيس الأمريكى فى فترة رئاسته الحالية سلاح جديد للتعامل مع دول العالم، لم يكن موجوداً فى فترة رئاسته الأولي، وهو سلاح «المهلة الزمنية» الذى صار يستخدمه بكثرة فى كل القضايا وهى «مُهل تتراوح مدتها ـ عادة ـ بين الثلاثين والستين والتسعين يوماً، حسب نوع القضية و «الزبون».. وقد استخدمها فى التعريفات الجمركية مع الصين ومع أوروبا، واستخدمها مع الرئيس الروسى بوتين لوقف اطلاق النار فى أوكرانيا، ومع إيران للعودة للمفاوضات النووية، وغيرها بينما لم يستخدمها قط مع إسرائيل لوقف اطلاق النار فى غزة، أو إنهاء الحصار والتجويع.. إلى آخره.
أعود إلى سياق الموضوع، وإن كانت الملاحظة السابقة فى صلبه وليست خارجه، وأنقل ما نشرته صحيفة «نيويورك بوست» الأمريكية على لسان «آنا كيلي» نائبة المتحدث الرسمى باسم البيت الأبيض عن نتيجة عملية الفحص.
قالت آنا كيلى الآتي:
إن فريق الفحص والمراجعة اعترض على سياسات التنوع والمساواة والشمول فى منظمة اليونسكو «بسبب تحيزها للفلسطينيين».
لاحظ فريق الفحص أن المنظمة استخدمت مجلسها التنفيذى «لفرض إجراءات معادية لإسرائيل ولليهود».
ما هى هذه الإجراءات؟!
قالت متحدثة البيت الأبيض:
تصنيف الأماكن المقدسة اليهودية على أنها مواقع تراث عالمى فلسطيني!!
تكرار استخدام المنظمة لعبارات تشير إلى أن «فلسطين مُحتلة» من جانب إسرائيل وتدين الحرب الحالية فى غزة!!
يعنى من الآخر، إن «المساس بإسرائيل أو الانحياز للفلسطينيين من جانب المنظمة أو من جانب غيرها، من موجبات انسحاب أمريكا منها».
وإن مجرد الإشارة إلى أن فلسطين أرض محتلة من جانب إسرائيل يتعارض مع المصلحة الوطنية الأمريكية:
إذن.. لماذا الانسحاب من اليونسكو وحدها؟!
إن اليونسكو إحدى منظمات الأمم المتحدة.. ولدى الأمم المتحدة آلاف الوثائق والقرارات التى تنص على أن فلسطين أرض محتلة، وأن إسرائيل دولة احتلال، فلماذا لا تنسحب الولايات المتحدة من عضويتها فى الأمم المتحدة؟!
محكمة العدل الدولية، وهى الجهاز القضائى الدولى للأمم المتحدة، تتابع الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين فى غزة والضفة منذ انتفاضة الأقصي، وتقر بأن إسرائيل «دولة احتلال» وعليها الالتزام بكل ما يلزم به القانون الدولى دولة الاحتلال من واجبات.. إلخ
كل منظمات العالم الدولية والإقليمية الآن تعترف بهذه الحقيقة.. وكثير من حلفاء أمريكا وإسرائيل المقربين فى أوروبا وغيرها يتعاملون مع إسرائيل بصفتها دولة احتلال، بل وبعضهم يقاطع منتجات مستوطناتها فى الأراضى الفلسطينية المحتلة باعتبار المستوطنات ذاتها غير شرعية.
هل لنا أن نعتبر أن ما يصب فى المصلحة الوطنية الأمريكية، هو أن نعتبر أن فلسطين هى التى تحتل إسرائيل؟!
هل لنا أن نضفى هذا التفسير المستحدث للمصلحة الوطنية الأمريكية على المساعى التى لا تتوقف لإبادة الشعب الفلسطينى وتهجير ما يتبقى منه على قيد الحياة ـ قسراً أو طوعاً ـ باعتبارها «مقاومة شرعية إسرائيلية للاحتلال الفلسطينى وطرده من الأرضى الإسرائيلية المحتلة؟!
لقد كتبت الأسبوع الماضى عن عالم المتناقضات، فهل هناك أكثر من ذلك تعبيراً عنه؟!