ربما يثور سؤال ونحن نحتفل بذكرى ثورة يوليو هذه الأيام: أيهما كان له الفضل على الآخر؛ ثورة يوليو أم جريدة الجمهورية..؟!
والحق أن الفضل بين الاثنتين متبادل؛ ذلك أن الجريدة هى ابنة الثورة، تدين لها بما يدين به كل ابن بار لأمه من فضل؛ فهى سبب وجودها..أما فضل «الجمهورية» على الثورة، فلأنها كانت لسان حال الثورة وصداها الإعلامى المباشر. ومنبرها الذى عبر عن مبادئها الستة وواكب تحركاتها فى بناء دولة الاستقلال والعدالة الاجتماعية.
لم تكن «الجمهورية» مجرد صحيفة، بل أداة من أدوات التعبئة والتنوير السياسي، حملت على عاتقها مهمة تشكيل وعى جديد، وأسهمت فى ترسيخ دور الصحافة كفاعل أساسى فى صناعة الرأى العام. ومنذ انطلاقها، ربطها القارئ بثورة يوليو، حتى أصبحت رمزًا من رموزها التاريخية، تشهد على تحولات العصر وتغيراته، دون أن تنفصل عن أصلها الثوري.
ورغم تحفظ البعض على ثورة يوليو فستظل ثورة يوليو شأنها شأن كل الثورات عملًا بشريا يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ.. ومن ثم فقد أصاب فيها من أصاب وأخطأ من أخطأ وارتفع معها من ارتفع وهوى من هوى وربح من ربح وخسر من خسر.. ومن هنا تتباين المواقف ما بين التأييد والقبول أو الرفض والتحفظ ..فكل طرف يبنى قناعاته ومواقفه انطلاقاً مما حققته له الثورة من مصالح ومكاسب أو ما نزعته عنه من تلك المكاسب.. لكن رغم ذلك فستظل تلك الثورة المجيدة بنجاحاتها وإخفاقاتها نقطة تحول فارقة فى تاريخ مصر والمنطقة كلها..وليس بوسع أى منصف إلا أن ينحنى لها إجلالاً لما أحدثته من منجزات سياسية واقتصادية واجتماعية وما أسفرت عنه من تغيرات جذرية فى حياة شعب مصر بل وشعوب المنطقة العربية والإفريقية التى استلهمت منها روح التحرر والفكاك من نير الاستعمار البغيض..وهو ما ينبغى أن نبينه للأجيال الجديدة التى لم تقرأ التاريخ ولم تعاصر ذلك الحدث التاريخى شديد الأهمية.
ما ينبغى أن تتذكره أجيال اليوم من الصحفيين أبناء دار التحرير أن «الجمهورية» منذ خرجت للنور خاطبت جميع فئات المجتمع مع انحياز واضح للبسطاء منهم، بما تقدمه صفحاتها المتنوعة وملاحقها المتخصصة، ورغم أنها صدرت فى أجواء صحفية شديدة التنافسية فسرعان ما أثبتت كفاءتها، وانطلقت تؤدى رسالتها على مدى أكثر من نصف قرن، ترصد ما يجرى حولها من أحداث على الصعيدين العربى والعالمي؛ ذلك أن الله قيض لها كوكبة من الصحفيين والكتاب العظام الذين ازدادت بهم شهرتها وذاع صيتها وعلا شأنها، وتعاقب على رئاسة مجلس إدارتها وتحريرها نخبة متميزة وشخصيات ذوو شأن من رجال الثورة والسياسة والأدب والثقافة والصحافة، نذكر منهم الرئيس الراحل أنور السادات، حسين فهمي، جلال الدين الحمامصي، أحمد قاسم جودة، كامل الشناوي، صلاح سالم، إبراهيم نوار، إسماعيل الحبروك، طه حسين، موسى صبري، ناصر النشاشيبي، كمال الدين الحناوي، حلمى سلام، مصطفى بهجت بدوي، فتحى غانم، عبد المنعم الصاوي، محسن محمد، وسمير رجب ومحمد أبو الحديد، ومحمد على إبراهيم وعلى هاشم وقد حافظت الجمهورية على توزيعها ومكاسبها حتى وقعت أحداث يناير 2011، فتعاقب على رئاسة مجلس إدارتها الزملاء: خالد بكير ومصطفى هديب وجلاء جاب الله وسعد سليم وإياد أبو الحجاج والمهندس طارق لطفي، بينما تعاقب على رئاسة التحرير الزملاء: جمال عبدالرحيم وسيد البابلى وفهمى عنبة وعبد الرازق توفيق وأحمد أيوب.
تاريخ طويل قطعته الجمهورية لتسطر تاريخًا يستحق أن يروى بأمجاده وإنجازاته، لنستلهم منه الدروس والعبر فى أوقات صعبة، تحتاج فيه صحافتنا وإعلامنا كله أن تعيد قراءة المشهد الجديد بمتغيراته وتحدياته التى تهدد بسحب البساط من تحت أقدامها وأكبر دليل ما نراه اليوم من تطور مذهل لوسائل التواصل الاجتماعى والمنصات الإلكترونية تصدرت فيه «البود كاست» مثلا المشهد بأرقام مشاهدات عالية جدًا؛ خصمًا من رصيد الإعلام التقليدى كله، تمامًا كما فعلت الصحافة الإلكترونية فى بداياتها ثم ظلت تكسب يومًا بعد يوم أرضاً جديدة وتتسع رقعتها وتجتذب قراءً جدداً، وتستحوذ على نصيب متزايد من السوق الإعلانية تسندها عوامل عديدة تجعلها أكثر انطلاقاً وجاذبية وأقل كلفة ومشقة وأسرع وصولاً للحدث وملاحقة لمستجداته.. والسؤال: هل نحن مستعدون لمواجهة هذا الفيض المنهمر من الوسائل الجديدة للإعلام ..هل نحن مؤهلون للمواجهة ببنية تكنولوجية وكوادر مدربة ورؤية استشرافية لآفاق هذا العالم المتطور..؟
أما ثورة يوليو فينبغى إعادة قراءة تاريخنا دون قناعات مسبقة أو انحيازات مطلقة، ودون أن نلوى أعناق الحقائق أو نعبث بتاريخ الشعوب.
وأخيرًا لا ينكر فضل ثورة يوليو إلا جاحد لم يقرأ ما أحدثته تلك الثورة من تحولات اجتماعية وسياسية خطيرة أعادت صياغة المجتمع على أسس أكثر عدالة وإنسانية.. فهل يبادر المؤرخون الأمناء والجادون بإعادة صياغة هذا التاريخ بإنصاف حتى يعلم أبناؤنا وأحفادنا كم نحن مدينون لهذه الثورة بما نحن فيه اليوم وحتى يدركوا حقيقة ما جرى فى مصر وما أريد لها و ما يراد بها..؟!