من أخطر ما يقلقنى على المجتمع المصرى ومستقبل الأمة المصرية هو «انحراف البوصلة»، أو اختفاء القبلة، والبوصلة أو القبلة لا تضيع من تلقاء نفسها، ولا تشيخ ولا تتبدل، لكن حاملى البوصلة أو ضابطى القبلة هم الذين يتبدلون أو يتغيرون أو ينحرفون، وآه وألف آه من فساد من كان دوره الإصلاح، أو اعوجاج من كانت مهمته نشر الاستقامة، فعندما يسرق من كانت وظيفته حماية المال العام، أو يتكبر من كانت مهمته تعليم الناس التواضع.
>>>
فلو رأيت معلما يتحرش بتلميذته أو طبيباً بمريضته، إذا رأينا عامل النظافة وجامع القمامة يقوم ببعثرتها أمام الناس، إذا رأيت واعظا يبدو أمامنا قديساً وهو يمارس الرذيلة غير عابئ بعين الله ومراقبته، وعندما نجد من يحرس بيتا فى النهار ويسرقه بالليل، هو نفسه الكاتب الذى يكتب مدافعا عن بلده فى العلن ويلعنها ويخونها فى الخفاء، هو نفسه المذيع الذى يعتبر صوته « أكل عيش ».
>>>
هنا لا أتحدث فقط عن كل هؤلاء الذين لا يقومون بدورهم وإنما أتحدث عن قيامهم بعكس ما كُلِفوا به، هنا نتذكر مقولة لأبى سفيان الثورى شديدة الألم ودقيقة الغرض «يا رجال العلم يا ملح البلد، من يصلح الملح إذا الملح فسد؟»
انه سؤال استنكارى حول من يصلح أهل العلم إذا فسدوا، فالملح هو ما يحفظ الطعام من الفساد، فإذا فسد الملح نفسه، فمن يصلحه إذن؟
>>>
تحكى العرب ان شيخا لقبيلة كان ذا شأن ومكانة راود امرأة عن نفسها فى غيبة زوجها، وأفصح لها عن مكنون رغباته الدنيئة فى ظلمة الليل، فردت تلك المرأة بهدوء وحكمة قائلة لشيخ القبيلة « أبشر» سأمكنك من نفسى شريطة ان تجيب عن سؤالي، فقال آتينى بسؤالك وإنى لمجيب دون تردد، قالت له « يا سيدى من يصلح الملح إذا الملح فسد ؟» تلعثم الشيخ ولم يستطع الاجابة على المرأة البدوية.
>>>
فطلبت منه أن يغادر ويفكر فى الاجابة ثم يعود إليها مجددا فى الليلة التالية، انصرف شيخ القبيلة وجمع. حوارييه ليسألهم «من يصلح الملح إذا الملح فسد ؟» اجتهد من اجتهد ولم يصل أحدهم إلى الإجابة المقنعة التى يمكن أن يحملها الشيخ المزيف إلى تلك المرأة العفيفة، لكن أحد هؤلاء الحواريين لم يجب وإنما صمت تماما وأراد أن يجيب على سؤال شيخ القبيلة على انفراد.
>>>
بعد مغادرة الجميع قال الرجل لشيخ القبيلة «من قال لك هذا اللغز؟ فقال الشيخ وهل تعرف الاجابة عن هذا اللغز؟
قال بل أعرف من قائله «يا سيدي: قائل هذا اللغز شخص احتمى بك فخذلته وهو ذو خلق وحكمة هو لا يريد أن يرد لك طلباً بغلظة فى القول مخافة أن تنقلب عليه بما لك من نفوذ وقوة، لكنه لن يجيب طلبك لأن دينه وأخـــــلاقه تمنعــانه من ذلك، ولا يريد أن تكون عدوا له.
>>>
فقط يريد مخاطبة ضميرك ومكانتك، وأظنها – وسامحنى على فطنتى وحدسى فهى من نافذة الشفافية مع الله – أظنها امرأة عربية أصيلة راودتها أنت يا شيخنا عن نفسها، فأبت بكبرياء وتعفف فهى تريد أن تصون عرضها وعرض زوجها ولكنها تخشاك وتخشى سطوتك فجاءت لك بهذا اللغز فقط لتراجع ضميرك وتســـــتعيد عافيتـــه وعافيتــــك، اذهب يا شيخنا أصلح نفسك واستقم كما أُمِرت.
>>>
كم فى حياتنا أناس يقولون ما لا يفعلون، ويسيئون لأنفسهم ومكانتهم بسوء صنيعهم، ما أصعـــــب هذه العبـــــارة «من يصلح الملح إذا الملح فسد؟».