جلس الرجل وسطنا لا ينطق بكلمة لكن يتطلع إلى الشاشة مثلنا، وبينما تخترق أذنيه أصوات دفعات تنطلق من رشاشات يعقبها جثث تتراكم ومعها يعلو صيحات نداءات حماسة تطلقها حناجير زاعقة بالتكبير كأننا في حرب تحرير للأرض والشرف والكرامة لا إراقة دماء مواطنين عزل يستسلمون لقدرهم المحتوم وفي هذه الأثناء تنساب دموع الرجل حتى تبلل وجهه في صمت بليغ.
إنه الصمت الذي صار حالة وجودية لها أبعادها العميقة التي تفوق فكرة غياب الكلام، إنها حالة تتشكل فيها معان وتعبيرات مختلفة وتواصل إنساني يكشف صوراً من تجارب إنسانية بمستوييها الفردي والجماعي وقد ينظر بعض الناس إلى الصمت بوصفه أمراً سلبياً معارضاً لفكرة تكلم حتى أراك بينما تبدو المسألة هي اصمت حتى أبكى. إنه تواصل خاص ومرهف الحس حينما أبلغك مشاعر الرفض أو القبول بلغة الدموع أو علامات الحزن البادية على الوجه أو حتى صمت الفرح حينما لا تجد كلاماً معبراً يقال فيلزمك الفرح المتألق في العيون الصمت.
في “السوشيال” ميديا أسواق كبرى للحكي الشفاهي والمدون وكل يلتقط لحظة من عمر الزمن ويتصور وقوف الزمن عندها لتبدأ (الترنيدات) والتي يختلط فيها الغث مع الثمين، وتضيع فرصة التأمل الذاتي ومراقبة الشعور والفهم الأعظم للذات من خلال الصمت وحتى عندما تشتبك العلاقات الاجتماعية في صراعات ومشادات لفظية أو عراك بدني فإن الصمت يعيد الأمور إلى نصابها حيث يكون من الحكمة أن تلوذ به لتهدئة التوتر أو التعبير عن الاحترام أو العودة الحميدة من جديد لتلك العلاقات.
إن ضبط النفس إزاء الإساءة أو الاستفزاز يتشكل في إطار الصمت الذي قد يعني القوة العاقلة القادرة على كبح جماح غرورها أو قدراتها.
وعندما يعبر (إينشتاين) عن حالة الصمت فيقول إن الكون مثل غابات يسودها الصمت فهي تدعونا للتأمل العميق وإن كنت تخشى منها في عتمة هذا الصمت الهائل، ويروعك الفزع عندما يكسر الصمت من خلال حركة أو رنة أو دوي عظيم.
ويقول الكاتب الأمريكي (هيمنجواي) يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام وخمسين سنة ليتعلم الصمت وتعلم الصمت الذي يقصده (هيمنجواي) هو القراءة المتأنية لما تشاهده وتسمعه ما يجعلك تفكر وتقوم بالتحليل، إنه ليس التوقف عن الكلام أياً كان نوعه. إنه نوع من التجاهل الظاهري الذي يبدو إهمالاً لكنه معرفة أكثر وإدراك أعظم. وعندما يصمت الشخص المكتئب فإنه دلالة على شدة المرض النفسي كما أن الأحلام قد يكون الصمت فيها رمزاً للاحتياج أو طلب المساعدة وهنا يكون دور المعالج أن يكشف أسباب هذا الصمت ويعبر المبدع (سيد حجاب) عن حالة الصمت في وجه الصراخ فيقول … يادي الصرخة كنا كتمناها في صدورنا لما انقطمت تحت حمول الهم ضهورنا.