فى خضم معركة مصر ضد التطرف والفكر المنحرف، يبرز تجديد الخطاب الدينى كقضية محورية يتقاذفها التفاؤل والحذر فعلى جانب هناك أحلام المتفائلين بمستقبل تزدهر فيه قيم الاعتدال والتسامح، وعلى الجانب الآخر قفزات المتشددين الساعية لفرض رؤى جامدة وإبقاء الفضاء الدينى رهينة تفسيرات ضيقة.
وفى هذا السياق، تطرح المؤسسة الدينية الرسمية فى مصر– متمثلة فى الأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف وغيرها– رؤيتها حول نجاحات تحققت وإخفاقات واجهت مشروع الخطاب الدينى المعتدل. واستعراض صورة تحليلية لأبرز تلك النجاحات والتحديات، مع تسليط الضوء على المعوقات التى تعترض طريق التجديد، والدعوة إلى تبنى خطاب دينى واقعى يوازن بين الثوابت ومستجدات العصر.
استطاع الخطاب الدينى المعتدل الذى تقوده المؤسسات الرسمية تحقيق نجاحات ملموسة فى التصدى للتطرف وتصحيح المفاهيم، فالأزهر الشريف- المرجعية الإسلامية الكبرى فى مصر- يُنظر إليه كـمنارة للعلم وقاعدة للاعتدال والوسطية وحامل لواء التجديد والإصلاح، وحصن حصين يحمى الأمة من أفكار التطرف والإرهاب، وهذه المكانة ترسخت عبر تاريخ من نشر تعاليم الإسلام الصحيحة التى تعكس روح التسامح، وتصحيح المفاهيم المغلوطة التى يروج لها المتشددون، فضلاً عن تعزيز الحوار بين الثقافات والأديان لتكريس قيم التعايش والسلام.
وقد تبنّت دار الإفتاء المصرية نهجًا عمليًا لمواكبة العصر فى مواجهة الفكر المتطرف، فمنذ عام 2014 أطلقت الدار منصات إلكترونية تعمل على مدار الساعة للرد على الفتاوى الشاذة والمضللة، ومنها موقع- بصيرة- الذى يبث بثلاث لغات لمعالجة المفاهيم الخاطئة، وكذلك صفحة -إرهابيون- لرصد وتتبع أنشطة المتطرفين ومحاولاتهم تشويه صورة الإسلام، والرد عليها بالحجة العلمية، كما أنشأت دار الإفتاء مرصدًا للفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة قام بإصدار عشرات التقارير التى نُشرت فى وسائل الإعلام المختلفة، مما ساعد فى تفنيد الفكر المتطرف وتفكيكه بالدلائل والبراهين الشرعية، ولم يقتصر الدور على الداخل المصري؛ إذ باتت دار الإفتاء مرجعية معترفا بها دوليا، حيث تم اعتمادها مرجعًا رسميًا للفتوى فى البرلمان الأوروبي، وتزويده بنحو ألف فتوى مترجمة بالإنجليزية والفرنسية والألمانية تراعى أوضاع مسلمى أوروبا، إضافة إلى ترجمة تقارير مرصد الفتاوى لمواجهة دعاوى الجماعات الإرهابية بمنهج علمي.
هذه الجهود تواكبها تحركات ميدانية مشتركة؛ فخلال الربع الأول من عام 2025 أرسل الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف 271 قافلة دعوية مشتركة فى مختلف المحافظات، إلى جانب المؤتمرات الدولية والمنتديات الفكرية التى شكلت ساحة لإبراز ريادة الخطاب الوسطى المصري، إضافة إلى الجهود الحثيثة التى يبذلها الإمام الأكبر شيخ الأزهر فى هذا المضمار، حيث قاد تحركات واسعة لمجابهة الفكر المتشدد وترسيخ قيم السلام والتسامح على الصعيدين المحلى والدولي، لتأكيد أن الخطاب الدينى الرسمى المعتدل استطاع تحقيق اختراقات مهمة فى محاربة خطاب الكراهية، وتقديم الصورة الحقيقية للإسلام السمِح فى مواجهة حملات التشويه.
إخفاقات وتحديات
رغم ما تقدم، واجه مشروع الخطاب الدينى المعتدل تحديات وإخفاقات حالت دون تحقيق كامل أهدافه، أبرزها استمرار تسرب بعض الخطابات المتشددة والسطحية إلى المجال العام، مما أضعف أحيانًا رسالة الاعتدال، فعلى سبيل المثال، أدت فوضى الفتاوى الناتجة عن تصدر غير المؤهلين والمتشددين للمشهد إلى انتشار أفكار مغلوطة أساءت لصورة الإسلام عالميًا وأسهمت فى تأجيج ظاهرة الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية، وقد تمكنت تلك الفتاوى الشاذة والمتطرفة من استقطاب بعض الشباب، ودفعتهم إلى الانضمام لتنظيمات إرهابية مثل داعش، مستغلين غياب الفهم الصحيح، وهو ما استدعى تكثيف جهود مواجهة الفكر بالفكر عبر تدريب الأئمة والدعاة وتأهيلهم للرد على شبهات المتطرفين بلغات متعددة ومن خلال الإعلام ووسائل التواصل.
كذلك برزت مشكلة إفساح بعض المنصات الإعلامية المجال لخطابات دينية تفتقر للعمق العلمي، فقد لاحظت المؤتمرات الدينية السابقة خطورة استضافة شخصيات غير متخصصة فى البرامج الدينية ولا سيما برامج الفتوي، مما يؤدى إلى فوضى وإثارة البلبلة بين الناس. ورغم صدور توصيات صريحة بضرورة منع غير المؤهلين من تصدر المشهد الإعلامى الديني، فإن الالتزام بذلك لم يكن كاملاً، لتستمر بعض الأطروحات السطحية فى الوصول إلى الجمهور وإضعاف الثقة بالخطاب الرسمى الرصين، وبالتوازى لم يتوقف أصحاب الأجندات المتطرفة عن محاولات القفز على المنابر البديلة كفضاء الإنترنت ومواقع التواصل لبث رسائلهم، ويشير المفتون والعلماء إلى أن جماعات ما يسمى بـ«الإسلام السياسي» سعت للسيطرة على بعض منصات الخطاب الديني، سواء داخل البلاد أو خارجها، ونشر فتاوى وأفكار متشددة شوهت الخطاب الدينى الوسطي،تلك المحاولات وإن تم التصدى لكثير منها، إلا أنها شكلت نكسات مؤقتة عرقلت مسيرة التجديد، وأبرزت الحاجة الملحة لمزيد من الحزم والحضور الفاعل فى الفضاء الإلكترونى والإعلامى لمواجهة قفزات المتشددين المتسارعة.
على جانب آخر، يقر مسئولون وعلماء أن عملية تجديد الخطاب الدينى نفسها لم تسر بالوتيرة المأمولة طوال الوقت، فبعد سنوات من الدعوات، لا يزال البعض يرى أن خطوات التجديد بطيئة قياسًا بحجم التحديات، ويلفت المراقبون إلى أن الهجوم على المؤسسة الدينية أحيانًا كان يخرج عن نطاق النقد البناء ليصب فى صالح قوى تسعى للنيل من هيبة الأزهر ودار الإفتاء لتحقيق مكاسب سياسية أو شخصية.
فى تحليل أعمق للأسباب الكامنة وراء تلك الإخفاقات، يمكن رصد عدد من المعوقات البنيوية التى اعترضت طريق تجديد الخطاب الدينى فى مصر:
الجمود الفكرى
ما زال تيار من الدعاة والعلماء يراوح مكانه عند حدود التفسيرات التقليدية القديمة، متخوفًا من الانفتاح على اجتهادات جديدة، وقد حذّر مفتى الجمهورية من نهج بعض الجماعات والأفراد الذين يتعاملون مع التراث بـقراءة حرفية جامدة وكأنه مقدس، فيستدعون أحكامًا واجتهادات وُضعت لواقع مغاير لواقعنا هذا الجمود أفضى إلى اصطدام غير مبرر بين التراث والمعاصرة نتيجة القراءة الخاطئة المتصلبة، وأعاق محاولة تقديم فهم دينى قادر على مواكبة متغيرات الزمن. فبدلاً من أن يقود العلماء عملية التجديد المدروس، انكفأ بعضهم على رؤى ضيقة خشية المساس بالثوابت، مما عطّل مسيرة التحديث الفكرى المنشود.
استغلال سياسى وإعلامى
شكّل تسييس الدين أحد أكبر العقبات أمام خطاب وسطى موحد. فبعض الجماعات ذات الأيديولوجيات المغلقة وظفت الشعارات الدينية لخدمة أغراضها السياسية، فخلقت خطابًا دينيًا موازياً مشحونًا بالتحريض والكراهية. ويُعد نموذج جماعة الإخوان الإرهابية والتيارات المنبثقة عنها مثالاً بارزًا على ذلك؛ حيث تبنت مفاهيم مغلوطة عن الحاكمية والخلافة والتكفير فى سعيها للتمكين السياسي، مغذيةً التطرف والعنف، وقد كشف علماء الأزهر ودار الإفتاء أن هناك نحو 40 تيارًا متطرفًا تعتمد على قرابة 35 مفهومًا منحرفًا تشكل الخطر الأكبر على المجتمع، حيث تصدى الخطاب الرسمى لهذه الظاهرة عبر تفنيد تلك المفاهيم وإصدار كتب لتفكيك أفكار الجماعات من الإخوان إلى داعش وترجمتها لعدة لغات ، إلا أن استمرار وجود هذا الخطاب المسيس فى بعض المنابر الإعلامية ومواقع التواصل أبقى التحدى قائمًا، كذلك سعى بعض الإعلاميين إلى إثارة وجذب المشاهدات عبر نقاشات دينية سطحية أو استضافة أصوات تشددية، مما ساهم فى خلط الأوراق أمام الجمهور بين ما هو خطاب دينى رسمى رصين وما هو رأى متشدد معزول.
رؤية موحدة
لسنوات طويلة، عانت جهود التجديد من العمل فى جزر منعزلة دون تكامل كافٍ بين الجهات المعنية. غياب إستراتيجية موحدة تجمع الأزهر ودار الإفتاء والأوقاف ومؤسسات التعليم والإعلام سمح بظهور تباينات فى الرسائل الموجهة للناس، وقد نبّهت مناقشات مجلس الشيوخ المصرى فى دورته المنتهية إلى أهمية التنسيق المؤسسى لضمان تكامل المرجعيات العلمية وتوحيد الأدوار فى بلورة خطاب دينى جامع يعكس روح الإسلام الحقيقية وينفتح على أسئلة الواقع، وأظهر الواقع أن نقص هذا التنسيق الشامل يؤدى إلى ترك فراغ تستغله أنماط من التدين المنفصل عن مقاصد الشريعة أو المرتبط بتوجهات أيديولوجية ضيقة، لذلك أكدت الدولة مؤخرًا ضرورة بناء رؤية علمية شاملة لتجديد الخطاب، تتجاوز الأسلوب الوعظى التقليدى وتعتمد على أسس معرفية متينة تعلى مقاصد الشريعة وتواكب التحولات الثقافية فى المجتمع.. وبدأت خطوات إيجابية فى هذا الصدد، منها عقد جلسات مشتركة بين علماء الدين وخبراء النفس والاجتماع والإعلام لصياغة خطاب جديد متكامل، وتسيير القوافل الدعوية المشتركة بين الأزهر والأوقاف كما أسلفنا، لكن الحاجة ما زالت قائمة لمزيد من التنسيق المنهجي، خاصة مع المؤسسات التعليمية لترسيخ مناهج التفكير النقدى والفهم الدينى المستنير لدى الأجيال الجديدة.
قصور عن جذب الشباب
مخاطبة جيل الشباب بلغة عصرهم تمثل تحديًا جوهريًا ظهر جليًا فى الفترة الماضية، فكثيرًا ما اشتكى الشباب من نمط خطاب دينى تقليدى لا يخاطب واقعهم وتساؤلاتهم الحديثة، وفى ظل تغير أنماط تلقّى المعرفة لدى الأجيال الجديدة، لم يعد المسجد أو الكتاب المدرسى المصدر الوحيد للمعلومات الدينية، بل انفتح الشباب على فضاءات رقمية متنوعة تفتقر فى أحيان كثيرة للضبط الشرعى والعلمي، وذلك بسبب غياب خطاب دينى يجمع بين أصالة المضمون وحداثة الأسلوب مما أسهم فى انصراف البعض إلى منصات بديلة قد تتبنى أفكارًا سطحية أو متشددة، ومن هنا برزت ضرورة تطوير لغة وخطاب دينى يجذب الشباب؛ لغة سهلة عصرية تفهم أدوات التواصل الحديثة وتستخدمها، دون إخلال بجوهر الرسالة، وقد بدأت المؤسسات الرسمية إدراك ذلك، حيث أكدت توصيات الجهات المعنية ضرورة إطلاق تطبيقات تعليمية ومنصات رقمية تفاعلية تقدم محتوى شرعيًا رصينًا بلغة شبابية معاصرة، تربط القيم الدينية بمفاهيم الواقع كالمواطنة والتنمية، بما يحصّن وعى الشباب ضد التزييف والانحراف، حيث توجد فجوة تتطلب مزيدًا من الابتكار فى الخطاب وآليات تواصله، حتى لا يُترك الشباب فريسة لرسائل جامدة لا تلائم تطلعاتهم أو لأفكار متطرفة تتسلل إليهم عبر الإنترنت.
فى ضوء ما سبق من نجاحات وإخفاقات، تتبلور الحاجة إلى تبنى خطاب دينى جديد واقعى وعقلاني، ينطلق من رؤية إصلاحية شاملة تراعى قضايا الناس وهمومهم المعاصرة وترتكز على مقاصد الشريعة الغرّاء، فى توازن حكيم بين الثوابت الدينية الراسخة والمتغيرات الاجتماعية الحتمية.
الخطاب المنشود
هذا الخطاب المنشود ليس خيالاً مثاليًا بقدر ما هو استدعاء لأصل جوهرى فى الدين الحنيف؛ فقد أكد علماء الأزهر أن عملية التجديد قانون قرآنى لتغيير واقع الناس إلى الأفضل، شريطة ألا تمس ثوابت الدين القطعية، ويشير منهج الأزهر العلمى الراسخ إلى إمكانية رسم معالم خطاب فكرى ودينى متوازن، من خلال الاعتماد على الفهم المقاصدى العميق للنصوص الشرعية والتفريق بين ما هو ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان وما هو متغير قابل للاجتهاد لتلبية مصالح العباد، بذلك يمكن تقديم صورة صحيحة للإسلام تنتقل عبر الأجيال وتحفظ جوهره، دون جمود يوقف عجلة الاجتهاد ولا انفلات يهدم ثوابت العقيدة.
إن الخطاب الواقعى العقلانى الذى تنادى به المؤسسة الدينية المصرية اليوم، هو خطاب يُعلى القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق التى جاء بها الإسلام، ويواجه التحديات المعاصرة بلغة تفهمها العقول والقلوب معًا، خطاب يهتم بقضايا المجتمع الفعلية- من تطرف وإلحاد وعنف أسرى وتحريف للفهم الديني- فيعالجها بفكر مستنير وحجة راسخة، وهو كذلك خطاب منفتح على العلوم الحديثة ومعطيات العصر، يستفيد من أدوات التكنولوجيا فى نشر رسالته السمحة، فتراه فى منصات التواصل ومن خلال التطبيقات الذكية مخاطبًا الشباب بلغتهم، وفى الوقت نفسه يحافظ على هيبة التراث وروح النصوص. وكما قال أحد نواب مجلس الشيوخ المصري: تجديد الخطاب الدينى أحد المرتكزات الأساسية لاستقرار الدولة وتماسك المجتمع، مما يستوجب رؤية علمية شاملة تتجاوز الوعظ المجرد، وتعتمد المضمون الرصين بلغة عصرية، وتضع فى الاعتبار التحولات الثقافية داخل المجتمع وتأسيسًا على هذه الرؤية، فإن المؤسسة الدينية الرسمية مدعوة اليوم أكثر من أى وقت مضى إلى ترسيخ خطاب مسئول يجمع بين حكمة الشيوخ وحماسة الشباب، خطاب لا يتردد فى مراجعة أساليبه وتنقيح مناهجه، مسترشدًا بمقولة مفتى الجمهورية د.نظير محمد عياد: إن تجديد الخطاب الدينى مهمة أصيلة للمؤسسات الدينية العريقة وعلى رأسها الأزهر الشريف، لكنها فى الوقت ذاته مسئولية مجتمعية مشتركة تتكامل فيها جهود العلماء والمثقفين والتربويين والإعلاميين، فإذا كان الخطاب الدينى يمثل ضمير الأمة وهويتها الروحية، فلا بد أن يكون واقعيًا يلامس قضايا الناس الفعلية، عقلانيًا يخاطب العقول بالحجة والمنطق، إنسانيًا يراعى مقاصد الشريعة فى تحقيق العدل والرحمة والكرامة للجميع. عندها فقط يمكن تحقيق أحلام المتفائلين بغدٍ يسود فيه الاعتدال والتسامح، ويتوارى فيه صدى خطاب التشدد والكراهية مهما حاول أصحابه القفز إلى واجهة المشهد. فالفكر لا يواجهه إلا الفكر- كما يؤكد علماء مصر المستنيرون- والخطاب الدينى المستنير هو السبيل لبناء مجتمع واعٍ متماسك، يصون ثوابته وينهض لملاقاة مستقبله بثقة وإيمان.