فى عالمٍ امتلأ بالهتافات الفارغة والشعارات الجوفاء، وقف رجلٌ أسمر اللون، حاد النظرة، يحمل فى روحه عبء قارة بأسرها، لم يكن نيلسون مانديلا مجرد اسم فى كتب التاريخ، بل كان ضميرًا حيًّا لإفريقيا… ولد مانديلا فى 18 يوليو 1918، فى قرية «مفيتزو» بجنوب أفريقيا، فى مجتمعٍ قبلى، تحكمه التقاليد وتضبطه أعراف أفريقية قديمة، وكان مولده مصادفًا لمولد قرن جديد، ملىء بالأسئلة والانكسارات والانبعاثات، ومنذ بداياته الأولى، بدت على وجهه ملامح القدر.
عندما نقرأ سيرة مانديلا، لا نقرأ تاريخ رجلٍ فقط، بل تاريخ أمة، بل وقارةٍ سُمّيت خطأ بـ»القارة السوداء»، لا لسواد لونها، وإنما لتعتيم القوى الاستعمارية على نورها وإمكاناتها.. دخل مانديلا السياسة من بوابة حزب المؤتمر لكنه لم يكن سياسيًا بالمعنى البيروقراطى أو الحزبى، كان رجلا يبحث عن العدالة، قاوم نظام الفصل العنصرى «الأبارتايد» ليس لأنه أسود البشرة فحسب، بل لأنه إنسانٌ.
اعتُقل مانديلا عام 1962، ثم حُكم عليه بالسجن المؤبد عام 1964، فى محاكمة «ريفونيا» الشهيرة، التى وقف فيها أمام المحكمة قائلاً كلمته التاريخية: «لقد حاربت ضد سيطرة البيض، وحاربت ضد سيطرة السود. لقد (ثمّنت) فكرة مجتمع ديمقراطى حر يعيش فيه الجميع فى وئامٍ وتكافؤ… وهى فكرةٌ أنا مستعدٌ لأن أموت من أجلها.». وما بين جزيرة روبن حيث قضى 27 عاماً من عمره خلف القضبان، وبين ساحة الحكم التى عاد إليها حرًا ورئيسًا، دار الزمان دورته العادلة، ولو طال ليلها.
ما يُدهشك فى مانديلا ليس فقط خروجه من السجن، بل خروجه من الكراهية أيضًا، فى زمنٍ كان العالم ينتظر فيه أن يتحول إلى رجل انتقام، خرج مانديلا رجل مصالحة، يفتح ذراعيه للجميع، ويطلب من الضحية والجلاد أن يبنيا معًا وطنًا جديدًا.. فى 1994، أصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، عبر انتخابات ديمقراطية شارك فيها الجميع لأول مرة. ولكنه رفض الاستمرار، ليُكرّس نموذجًا أفريقيًا نادرًا: المناضل الذى لم يتحول إلى طاغية، والثائر الذى فهم أن الثورة وسيلة، لا غاية.. تجربة مانديلا.. تظهر صورة بطلٍ أسطورى، بل إلى دروس فى:
> كيف يمكن للحرية أن تكون مشروعًا سياسيًا وأخلاقيًا فى آنٍ واحد.
> كيف يُمكن للمقاومة أن تتسلح بالمبادئ لا بالدم فقط.
> كيف يُمكن للمصالحة أن تكون قوة لا ضعفًا، ووسيلة لبناء الوطن لا هدمه.
اليوم.. وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على رحيل مانديلا، وما يربو على القرن من ميلاده، يبدو العالم وكأنه نسى رسالته أو تجاهلها عمدًا.
جنوب إفريقيا اليوم لا تزال تعانى من أزمات اجتماعية واقتصادية، القارة السمراء نفسها، لا تزال تحاصرها القوى الكبرى، ولكن الفرق أن صوت مانديلا لا يزال يرنّ: «الحرية لا تعنى فقط كسر القيود.. لا تزال كلمات مانديلا تتردد:. «قضية فلسطين هى أعظم قضايا الحرية فى العصر الحديث»
فى يوم 18 يوليو من كل عام، لا نُحيى ذكرى ميلاد مانديلا فقط، بل نُحيى معنى الإنسانية فى أسمى صورها.. مانديلا لم يمت.. إنه فى ضمير كل إنسان يؤمن بالحرية.. إنه فى وجدان كل شعبٍ يرفض الظلم.
إنه كان يؤمن أن السياسة ليست فن الممكن فحسب، بل فن الإنصاف.
وهذا هو الفارق بين رجل دولة… ورجل قدر.