فى عالم كثرت فيه الخُطب، وتزايدت فيه التصريحات، وارتفعت فيه الأصوات، بات الفعل الحقيقى هو العملة النادرة التى يبحث عنها الجميع. فالكلمات مهما بلغت من بلاغة وقوة، تظل عاجزة أمام أثر فعل واحد صادق، ينبع من ضمير حى، ويهدف إلى التغيير والبناء. لقد اعتادت المجتمعات على أن تُغرقها الشعارات، وتُضلّلها العبارات الرنانة، حتى أصبح الإنسان فى كثير من الأحيان أسيرًا للوعود الزائفة، والمواقف المعلّبة. غير أن الواقع لا يُحترم إلا من يحترم فعله، ويُثبت حضوره بما ينجزه لا بما يدّعيه. حين يصمت الخطاب ويتكلم الفعل، يتبدّل المشهد كليًا. تنسحب الضوضاء، ويحل الصدق. تتراجع الأضواء المصطنعة، ويظهر بريق الإنجاز الحقيقى. إن الفعل حين يصدر من رؤية واضحة، وإرادة قوية، وضمير وطنى حى، لا يحتاج إلى دعاية أو ترويج. فالفعل الصادق يُعلن عن نفسه دون وساطة، وتلمسه الأيادى قبل أن تسمعه الآذان. وعلى مر التاريخ، لم تُخلّد الشعوب من تحدّثوا كثيرًا، بل من فعلوا كثيرًا بصمتٍ وجدية وإخلاص الحضارات الكبرى لم تُبنَ بالكلمات، بل بعزيمة الأبطال الذين تركوا أثرًا لا ضجيجًا. لم يبحثوا عن التصــفيق، ولا عن الشُهرة، بل عن المعنى الحقيقى للمسئولية. وفى مواجهة الأزمات، يتجلى الفرق بين من يكتفى بالحديث، ومن ينزل إلى الميدان. فالكلام قد يُسكّن الألم مؤقتًا، لكن الفعل وحده هو القادر على العلاج، والبناء، والتحوّل. الكفاءة تُقاس بالإنجاز، المصداقية تُقاس بنتائج ملموسة على أرض الواقع. وحين تصبح القاعدة الأساسية هى: «دع العمل يتحدث عنك»، يصبح التغيير ممكنًا، والتقدم حقيقيًا، وحين يصمت الخطاب ويتكلم الفعل، تختفى التبريرات، ويبهت الادّعاء، ويظل الفارق واضحًا بين من يُمارس العمل كرسالة، ومن يراه مجرّد وسيلة للشهرة أو النفوذ. ذلك أن الفعل الشريف لا يحتاج إلى إعلان، لأنه يحمل فى جوهره قيمة تكفى لتخليده. تبقى الأفعال هى الشاهد الوحيد الذى لا يُكذب، وهى الحقيقة التى لا تزول مهما تغيّرت الظروف. ومن أراد أن يُخلّد اسمه فى ذاكرة الوطن، فليترك بصمة عمل، لا مجرد كلمات
فالفعل وحده هو الذى يُبقى الحقيقة حيّة، وهو الذى يمنح الوعود قيمتها، والمبادئ صدقها، والانتماء معناه. فما أكثر من يتحدثون عن العطاء عن البناء، وما أقل من يترجمون تلك الشعارات إلى واقع ملموس، وجهد صامت، وإنجاز ثابت. وفى ظل الواقع المعقّد، الذى تمتلئ فيه المجتمعات بالتحديات والضغوط، يصبح الفعل الحقيقى أكثر ما يُعطى الناس الأمل. عندما تتراكم الأفعال الجادة، يزدهر الإيمان بالمستقبل. تسقط الأقنعة، وتتضح الرؤى، ويعرف كل شخص مكانه ودوره. فى تلك اللحظـــة، لا حاجة لخطابات تحفيزية أو حملات إعلامية؛ لأن الشارع نفسه يشهد، والمواطن يشيد ، والنتائج تنطق. وإذا أردنا حقًا النهوض، فعلينا أن نُرسّخ ثقافة الفعل لا ثقافة الكلام، وأن نُربّى الأجيال على أن القيمة فيما يُنجَز لا فيما يُقال. وحين يصمت الخطاب، لا يكون ذلك نقصًا، بل نُضجًا. وحين يتكلم الفعل، لا يكون استعراضًا، بل التزامًا. وفى هذه اللحظة النادرة من التوازن، تُبنى الأوطان، وتُصنع المعجزات ما أكثر من ملأوا الدنيا حديثًا عن مبادئ لم يلتزموا بها، وقيم لم يترجموها، ووطنية لم يضحّوا من أجلها. وما أندر أولئك الذين آثروا العمل على الكلام، فمضوا فى طريقهم بهدوء، يُنجزون، ويصلحون، ويبنون، دون أن يطلبوا
تصفيقًا أو تسليط أضواء. حين يصمت الخطاب ويتكلم الفعل، تتقدّم الأمم بخطى واثقة، وينهض المجتمع على أسس ثابتة، ويُبعث الأمل من جديد فى نفوس الناس. حينها لا نحتاج إلى تبرير، ولا إلى دعاية، لأن الإنجاز يتكلم لغة لا تحتاج إلى ترجمة، ولأن الواقع أقوى من كل خطاب، وأصدق من أى وعد. فلنؤمن جميعًا أن الأثر لا يُترك بالخُطب، بل بالعمل. وأن الوطنية ليست أن نتحدث عن الوطن، بل أن نكون فى صُلب بنائه. وأن حبّ الأرض لا يُقاس بالكلمات، بل بالتضحيات، والصدق، والاجتهاد، والإخلاص فى كل ما نقوم به، مهما بدا بسيطًا. لا شك أن قيمة الخطاب لا تُقاس ببلاغته، بل بقدرته على التحوّل إلى فعل. وأن
القائد الذى يُحدِث الأثر لا يكون بالضرورة الأعلى صوتًا، بل الأصدق أداءً، والأكثر التزامًا، والأقل انشغالًا بالواجهة. فصناعة المجد لا تحتاج إلى ضجيج، بل إلى سكونٍ نقيّ يُشبه نَفَس المخلصين حين ينهمكون فى عملٍ لا يريدون منه إلا وجه الله والوطن.
وختاماً، تحية إجلال وتقدير وإحترام لكل من اختار أن يتكلم بعمله لا بصوته، وأن يترك بصمته لا توقيعه، وأن يصنع من وقته طوبة فى جدار الوطن، ويرسم بصمة على وجه المواطن لا جملة فى دفتر الذكريات. هؤلاء هم من يصنعون الفرق، وهؤلاء وحدهم من تستحق أفعالهم أن تُروى وتُخلَّد. لأن الحقيقة المؤكدة الراسخة أن فعلاً يرى خيراً من ألف كلمة تقال.. حفظ الله مصر وحما شعبها العظيم وقائدها الحكيم