أصبحنا نعيش فى عالم من المتناقضات الملفتة، والممارسات الملتبسة، وإسقاط مسميات بريئة على أوضاع إجرامية دون خجل وفى تحدٍ سافر لكل الأسس والقواعد التى قام عليها النظام الدولي.
أشير هنا إلى بعض النماذج التى تؤكد ذلك.
> الرئيس الأمريكى ترامب يستحق أن يكون مرشحاً لجائزة نوبل للسلام.. الترشح لنيل الجائزة مفتوح، وسبق أن حصل على الجائزة رؤساء أمريكيون.. والرجل تعهد فى برنامجه الانتخابى خلال ترشحه للرئاسة الأمريكية لفترة ثانية بأن ينذر نفسه لإنهاء الحروب والمنازعات فى العالم، وإعادة السلام والاستقرار المفقودين للبشرية فى كل مكان، وهو ـ بصراحة ـ ما لم يتعهد به رئيس أمريكى آخر قبله.
وقد بدأ الرئيس الأمريكى بالفعل ـ فى تنفيذ ما وعد به.
ساهم فى منع حرب وشيكة فى آسيا بين الهند وباكستان على أثر صدامات مسلحة بين الدولتين.. وساهم أيضاً فى توقيع اتفاق سلام بين دولتين فى أفريقيا.. ومازال يحاول الوصول إلى نجاح فى حرب أوكرانيا فى أوروبا وغزة فى الشرق الأوسط.
قد يكون لى أو لغيرى ملاحظات أو تحفظات على أسلوب الرجل وطريقته فى اقتحام المشكلات، أو فى التعامل بأكثر من معيار مع أطرافها، أو غير ذلك، لكن المؤكد أن الرجل يحاول، ولا يتوقف عن المحاولة.. وها هو يضع مشكلة السد الأثيوبى بين أثيوبيا ومصر على جدول أعمال المشكلات التى ينوى اقتحامها.
ما هى المشكلة أو التناقض هنا؟!
المشكلة أو التناقض لا يتعلقان أبداً بشخص الرئيس الأمريكي، ولا بمدى أحقيته فى أن يكون مرشحاً لجائزة نوبل للسلام.
المشكلة أو التناقض فى أن يكون أول من يتقدم لترشيح الرئيس الأمريكى لنوبل للسلام شخصاً ليس فى تاريخه السياسى كله ـ الذى يمتد لثلاثة عقود مضت، قضى معظمها رئيساً لوزراء إسرائيل ـ موقفاً واحداً يدل على أنه يهتم بالسلام أو يعمل من أجل السلام، وهو بنيامين نتنياهو.
لا أستطيع أن أتخيل مشاعر أعضاء لجنة جوائز نوبل للسلام فى استوكهولم بالسويد، وهم يتلقون ـ ربما لأول مرة فى تاريخ اللجنة ـ رسالة من «مجرم حرب» مدان من القضاء الدولى بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وصادر ضده أمر اعتقال دولى وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية بتسمية مرشح لجائزة «السلام»، أياً كان هذا المرشح.
والأهم، أن نتنياهو مازال مستمراً فى ارتكاب هذه الجرائم اليوم، وغداً، وأن ملفه الجنائى الدولى لم يغلق من جانب قضاته، ومازالوا يلاحقونه، ويكفى أن «الجنائية الدولية» طالبت حكومات ثلاث دول أوروبية بإيضاحات عن سماحها للطائرة الإسرائيلية التى تقل نتنياهو فى رحلته هذا الأسبوع لأمريكا بالمرور فى أجوائها دون توقيفه.
ترشيح نتنياهو يمكن أن يلحق أكبر الضرر بفرص الرئيس الأمريكى فى الفوز بالجائزة.
> أصبح المهاجرون من أوطانهم إلى دول أخرى مشكلة عالمية، بعد تضاعف أعدادهم هرباً من ظروف سيئة فى أوطانهم، وسعياً لفرص عمل وحياة أفضل واستقرار فى غيرها.
وأصبحت «دول المهجر» تضيق بالمهاجرين إليها، حتى بالطرق الشرعية، بعد أن كانت حربها قاصرة على المهاجرين غير الشرعيين.. بعد أن زادت الأعداد، وتضاعفت الأعباء، وتأثرت أوضاع الداخل بهذه الأعباء، وبما جلبه المهاجرون إليها معهم من سلبيات.
أمريكا تطارد المهاجرين، وتضع قيوداً جديدة أمام القادمين.. أوروبا بعد أن ذاقت مرارة فتح أبوابها على مصراعيها أمام المهاجرين بدأت هى الأخرى فى وضع القيود.. مصر أصبحت بالنسبة لأوروبا «الشريك الإستراتيجى الأفضل» فى مواجهة ملف الهجرة غير الشرعية بالذات، ليس فقط بمنعها، بل بدعوة أوروبا إلى جهد تمويلى أكبر لدعم الدول الأفريقية المصدرة للمهاجرين وتحسين فرص العمل والحياة لمواطنيها حتى يظلوا فيها.
وسط هذا الموقف شديد الخطورة والتعقيد، تشتد المساعى من جانب إسرائيل وغيرها لانتزاع شعب من أرضه التى يعيش فيها من آلاف السنين، وهو الشعب الفلسطينى وتحويل الملايين من أبنائه فى غزة والضفة الغربية، من «مستقرين»، إلى «مهاجرين»!!
بالقتل والإبادة الجماعية.. بالتجويع والعطش.. بالحرمان من العلاج.. بالنزوح القسرى ذهاباً وإياباً من منطقة إلى أخرى بحجة دواعى القتال.. باستخدام كل الطرق والأساليب لجعل الحياة مستحيلة فى أى بقعة من الأرض الفلسطينية، والبقاء فيها للموت فقط.. هذا ما تقوم به إسرائيل يومياً فى فلسطين حتى ترغم شعبها على الهجرة.
وفى نفس الوقت تبذل إسرائيل مع غيرها كل المساعى الممكنة، وتطرق أبواب كل دول العالم، بحثاً عن من يقبل استضافة هؤلاء المهجّرين قسراً!!
الصامدون الفلسطينيون من الرجال والنساء وحتى من بقى على قيد الحياة من الأطفال.. الشامخون فى وجه أكبر محرقة تنصبها إسرائيل ضدهم.. المتشبثون بأرضهم ولو تحولت إلى جحيم، هم من يتحدون مخططات العدو لاقتلاعهم.. الأرض تحارب معهم.. والنصر موعدهم.
ومازال فى ملف «عالم التناقضات» بقية.