أم كلثوم (الست.. والوطن) اسم الفيلم الجديد الذى أنتجته قناة الوثائقية، وعرضت الجزء الأول مساء الاثنين الماضي، وهو من اخراج إسلام قاسم وكتابة نسمة تليمة، وتعليق محمد الزلبانى ومعهم فريق عمل كبير قام بجهد أكثر من رائع لتقديم حياة أم كلثوم منذ بدايتها، وتعاملها مع أحداث مصر، وتفاعلها مع كل المواقف الصعبة التى واجهها وطنها، خاصة المواجهات مع المستعمر الإنجليزى وقتها، وحتى خروجه، ومحاولات عودته عن طريق العدوان الثلاثى واستمرار احتلال قناة السويس، فى هذا الفيلم، رأينا أحداث مصر من خلال أمرين، الاول هو تطورات حياة (ثومة) وهو اسم أم كلثوم شعبيا، والثانى هو منتجات ومفردات الاعلام المصرى فى هذا الزمان، كالجرائد ومانشيتاتها وتعددها الكبير، وأيضا الصور لمقابلات أم كلثوم مع كبار عصرها وهى صور شديدة الاهمية فى تعبيرها عن زمن مختلف ،بدأت فيه الاذاعة المصرية إرسالها عام 1934، وغنت أم كلثوم وعبدالوهاب فى حفل الافتتاح (بأعلى أجر وهو 25 جنيها) وليصل صوتها إلى كل بلد ومكان يتحدث العربية، ويأخذ القلوب اليها للدرجة التى تصبح فيها محبوبة العرب فى كل مكان، ويطلق عليها شاعر العراق الكبير معروف الرصافى لقب (ربة الفن) كما قال نعمان المنذر الروائى العراقى فى الفيلم الذى ذكر أن لقب (كوكب الشرق) أهدته اليها امرأة فلسطينية بعد حفل لها بمدينة القدس قائلة (أنت كوكب الشرق كله ولست مغنية كبيرة فقط) كما تحدث فى الفيلم الكثير من المتخصصين وبينهم الموسيقى العراقى يوسف عباس والشاعر السورى هيثم عيدروس، إلى جانب المصريين من الكتاب مثل سعيد الشحات وعبد الله السناوى وحلمى النمنم وسيد محمود ومحمد شوقى وغيرهم من خبراء الموسيقى مثل د.أشرف عبدالرحمن الذى قال ان (أم كلثوم حققت عام 1934 وحدة وطنية عربية)، وغير الوحدة العربية الموسيقية، فقد شهدت حقبة الثلاثينات تطوراً شديد الأهمية فى الفن حين تحولت السينما المصرية إلى سينما ناطقة، وانشأ طلعت حرب (ستديو مصر) لصناعة الافلام، ولتقوم أم كلثوم ببطولة أول افلامه وهو (وداد) ليزداد تأثيرها. كمغنية العالم العربي، ونجمته السينمائية أيضا وتغنى لجمهورها فى هذا الوقت (يا شباب النيل.. يا عماد الجيل) وتتحول إلى أيقونة الفن مما دفع الملك فاروق لمنحها وسام الكمال، وهو ما دفعها لتغنى وقتها أغنيتها الشهيرة (يا ليلة العيد) بتعديل صغير تعبيرا عن شكرها، ولتصبح هذه الأغنية هدية كل الأعياد بعدها وحتى اليوم.
غلبت أصالح فى روحى
يذهب بنا الفيلم إلى كنز إذاعى مهم هو حوارات الاذاعى الكبير وجدى الحكيم معها، وكيف بدأت غناءها الوطنى بقصيدة (سلوا قلبي) وليصل تفاعل الجمهور معها إلى اقصاه وهى تنشد (وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا)، أما قصيدة (ولد الهدي) لأمير الشعراء احمدشوقى فقد واجهت مطالبة من بعض المقربين للملك بحذف بيت يبدأ بجملة تقول (الاشتراكيون أنت إمامهم) لكنها ترفض الحذف.. وتغنى 33 بيتا كاملة كما كتبها شوقي، ويذهب بنا الفيلم إلى حرب فلسطين عام 1948، كاشفا عن تبرعها للجيش المصري، وعن رسالة تلقتها من الكتيبة السادسة المصرية فى الفالوجا لسماع أغنيتها (غلبت أصالح فى روحي) فى حفل قادم، وغنتها، وحين عادت الكتيبة لمصر زارها جنودها وضباطها فى بيتها، وكان بينهم جمال عبدالناصر، وبعدها يذكر د.أحمد عبد العال عمر الاستاذ بجامعة الوادى الجديد، كيف واجهت أم كلثوم أحداث حريق القاهرة ودورالانجليز فيه من خلال غنائها (وقف الخلق ينظرون كيف أبنى قواعد المجد وحدي.. وبناة الأهرام فى سالف الدهر، كفونى الكلام عند التحدى أنا تاج العلا فى مفرق الشرق، ودراته فرائد عقدي)، وذلك عقب اندلاع الحريق فى 26 يناير 1952.. والذى قلب مصر كلها وأغضبها.
أم كلثوم وصفحة جديدة
(بنى وطني.. قمنا بتغيير انفسنا وتولى أمرنا رجال نثق فى وطنيتهم) بيان سمعته ثومة مع غيرها من أبناء الشعب المصرى صباح 23 يوليو 1952 وبعد ستة اشهر من حريق القاهرة وهو ما أحدث تلاقيا بين الجيش والشعب، وبدأت صفحة جديدة بين نظام يبدأ.. وبين كل الأمور خاصة الدولة التى لا زالت تحاول مد استعمارها، وبدأت أيضا صفحة جديدة بعلاقة الدولة بالفن من خلال أم كلثوم كما تقول الكاتبة فيروز كراوية، بينما يؤكد الكاتب حلمى النمنم بأن (ضباط يوليو وجدوا كنز كبير هو أم كلثوم، السلطة كانت فى حاجة لام كلثوم)، وفى اول حفل لها بعد الثورة، حضر الرئيس محمد نجيب وغنت هى (مصر تتحدث عن نفسها) و(صوت الوطن) و(مصر التى فى خاطري) واخيراً (جددت حبك ليه). وصعد ارتباطها بالثورة من خلال التعبير عن كل ما مرت به مصر من خلال الجمهورية الجديدة بلغة الفن والشعر والغناء بداية من اغنية (اليوم تم الجلاء) بعد توقيع اتفاقية الجلاء فى 18 يونيو 1954 وبعدها تواجه مع الناس موقفا صعبا هو محاولة اغتيال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية بأغنية كتبها الشاعر بيرم التونسى (يا جمال يا مثال الوطنية، اجمل اعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية)، وترتفع شعبية عبدالناصر فى العالم خاصة بعد تأميم قناة السويس وهو يعلن (باسم الأمة) كما نرى صحافتنا فى الفيلم، وتقوم أم كلثوم بالاتصال بكل الشعراء والكتاب لاجل ان تغنى لهذا الحدث، خاصة بعد قصف الإنجليز لمنطقة ابو زعبل، وتنهال الكتابات، والأناشيد، (والله زمان يا سلاحي) بقلم صلاح جاهين، وأيضا يكتب عن عودة القناة للمصريين (محلاك يا مصرى وانت ع الدفة) وفى نفس المرحلة، الخمسينات ،تقوم الثورة فى العراق وتغنى أم كلثوم لشعب العراق، وتغنى لسوريا وقت الوحدة مع مصر، وبشهادة عبدالوهاب فى الفيلم (ام كلثوم اصبحت زعيمة وليست فقط مغنية)
كان حلمًا.. فخاطرًا
(كان حلما، فخاطرا واحتمالا) قصيدة غنتها أم كلثوم شعر عزيز اباظة والحان السنباطى قبل تنفيذ مشروع السد العالى وساعة الإعلان عنه لتصبح فى نظر الكثيرين من المثقفين (صانعة ثقافة) و(صائدة هوية) كما يقول الكاتب ايهاب الملاح بينما يطرح الدكتور محمد عفيفى استاذ التاريخ المعاصر رؤية جمعتها بالرئيس عبد الناصر، فكلاهما (كان لديهم مؤهلات الزعامة، شعبية جارفة ومحبة خالصة) ويضيف الكاتب عبدالله السناوى إلى هذه الملامح التى جمعت بين السياسى والفنان بأن (أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم كانوا القوة الضاربة فى الحلم العربي) وان (عبدالناصر كان يغنى لعبد الوهاب بدون اى صلة وكان يغنى لام كلثوم وبينهما صداقة عميقة وكان يطلب شرائط حفلاتها)، بينما يؤكد الكاتب ابراهيم داود بان (المصريين أحبوا ناصر.. والست كانت زيهم).. أربعة عقود عاشتها مصر مع الست، أم كلثوم، حتى ما بعد منتصف الستينات، لتجيئ السنوات بعدها شاهدة على دور لا ينسى لها فى نهاية هذا الفيلم المهم، والذى سيتم استكماله فى جزء ثان.. ونحن فى الانتظار.