نجد أنفسنا اليوم امام مشهد جديد من مشاهد الصراع الدولى للظفر بمعركة الرقائق الالكترونية، فواشنطن التى تربعت طويلًا على عرش التكنولوجيا والتى تدرك ان رقائق السليكون اليوم هى السلاح النووى للغد جاءت قراراتها المتتالية بفرض القيود على تصدير الشرائح المتقدمة إلى الصين وعلى رأسها منتجات شركات مثل انفيديا وايه ام دي.
لكن كما علمتنا دروس التاريخ فان الحصار حين يفرض على أمة حية لا يؤدى إلى كسرها بقدر ما يدفعها إلى مضاعفة قواها. فبكين التى عرفت كيف تتعلم من تجارب الامم الاخرى لم تنتظر كثيرًا تحت شعار «صنع فى الصين 2025»، حيث بدأت فى بناء قاعدة صناعية مستقلة مدعومة بأموال طائلة وعقول لا تقل طموحًا عن تلك التى صنعت الثورة الصناعية الأولي.
كلنا شهدنا مؤخرًا كيف تمكنت هواوى من انتاج شرائح بحجم 7 نانومتر رغم كل القيود، فى شهادة عملية على ان التنين الأسيوى قد تجاوز مرحلة رد الفعل إلى مرحلة المبادرة.
على الجانب الآخر تتوالى خسائر الشركات الامريكية حيث تتبخر المليارات من ميزانيات انفيديا وايه ام دى والأسواق الآسيوية التى لطالما كانت رئة التنفس لنمو هذه الشركات التى أخذت تزداد اقترابًا من المنتج الصينى الذى لا يعد فقط بديلا أرخص، بل سرعان ما سيكون بديلا أفضل.
لذا فإن السياسة الامريكية تجد نفسها أمام تناقض صريح، ففى محاولتها لضرب الصين ساهمت دون قصد فى تسريع تحررها من الاعتماد واعادة رسم خريطة التكنولوجيا العالمية. أما القارة العجوز أى اوروبا فتراقب المشهد بشيء من التردد مائلة تارة نحو واشنطن وتارة أخرى نحو شراكات براغماتية مع الصين خشية ان تجد نفسها فى نهاية المطاف خارج لعبة لا ترحم
والواقع أن واشنطن باتت تواجه أمة لا تكتفى بالمنافسة فى الاسواق، بل تسعى إلى إعادة كتابة قواعد اللعبة، إذ أن الصين لا تستثمر فقط فى الحاضر، بل تزرع بذور تفوق مستقبلى فى مجالات مثل الحوسبة الكمية والتكنولوجيا الحيوية مدفوعة بإرادة سياسية قادرة على تسخير الامة باسرها لمشروع قومى واضح الأهداف.
وكما يقال دائما «إن الزمن وحده سيحسم هذه المواجهة»، ومع ذلك يبدو مؤكدًا حتى اللحظة ان الهيمنة الامريكية على سوق الرقائق لم تعد مسألة مسلمًا بها. فإننا أمام تحول تاريخى ربما يعادل فى أثره تحولات الثورة الصناعية الاولى والثانية، ليبقى السؤال الجوهرى هل تدرك امريكا ان العالم قد تغير ام انها ستظل تحارب معاركها القديمة بقوانين لم تعد تصلح إلا لكتب التاريخ.