فى وقت ما زال فيه الإرهاب يُشعل نيران الفوضى فى بقاع متعددة من العالم، نجحت مصر فى كتابة قصة استثنائية فى دحر الإرهاب، لا سيما فى شبه جزيرة سيناء. لقد تحولت التجربة المصرية إلى نموذج يحتذى به دوليًا فى المواجهة الشاملة أمنيًا وتشريعيًا، تقنيًا وفكريًا، لتصبح بحق تجربة تستحق أن تُدرّس عالميًا كنموذج معاصر فى التصدى للإرهاب متعدد الأذرع.
ففى خريطة الإرهاب العالمى التى تشهد تطورًا خطيرًا فى الأساليب، وتحولات عميقة فى طبيعة التهديدات من الهجمات التقليدية إلى حروب إلكترونية معقدة، تعاملت الدولة المصرية بجدارة مع هذه التحديات. وقدمت واحدة من أنجح التجارب فى مكافحة الإرهاب، عبر استراتيجية شاملة تراوحت بين الحسم الأمني، والتشريع الرادع، والتحليل المعلوماتى المتقدم، وتجفيف المنابع الفكرية والمالية للتطرف.
«الجمهورية الاسبوعى» تستعرض فى هذا التقرير أبرز ملامح خريطة الإرهاب العالمية خلال السنوات الأخيرة، مع تحليل لتطور أنماط الهجمات الإرهابية وانتقالها من العمليات الميدانية إلى استخدام الفضاء الرقمى والتقنيات الحديثة، بما فى ذلك العملات المشفّرة. كما نسلّط الضوء على التجربة المصرية الفريدة، التى استطاعت أن تقدم نموذجًا شاملًا وفاعلًا فى المواجهة، والقضاء على الإرهاب وتحقيق الاستقرار والأمن.
خريطة الإرهاب العالمية
شهد العالم 3350 هجومًا إرهابيًا فى عام 2023 وحده، أودت بحياة 8352 شخصًا، وفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمى لعام 2024 الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP). وقد تزايدت درجة العنف وشدة الجرائم الإرهابية بشكل ملموس، ما يعكس تحوّل التنظيمات الإرهابية إلى استخدام وسائل أكثر تطورًا، تشمل أدوات رقمية، وهجمات معقّدة، وعناصر عابرة للحدود.
فقد شهد العقدان الأخيران سلسلة من الهجمات الإرهابية البارزة عالميًا، منها:
> هجمات 11 سبتمبر 2001 – الولايات المتحدة: أسفرت عن مقتل نحو 2،977 شخصًا، وشكلت نقطة تحول فى السياسات الأمنية والقانونية عالميًا.
> تفجير ماراثون بوسطن (2013): نفّذه شقيقان بتأثر مباشر بالدعاية المتطرفة على الإنترنت.
> مذبحة أورلاندو (2016): أعلن منفذها ولاءه لتنظيم داعش، وقتل 49 شخصًا، فى واحدة من أسوأ الهجمات بالولايات المتحدة.
> هجمات باريس (باتاكلان) 2015 . أوقعت 130 قتيلًا، ونفّذتها خلية عابرة للحدود.
> تفجيرات سريلانكا (2019): استهدفت كنائس وفنادق بالتزامن، اسفرت عن أكثر من 250 قتيلًا.
> تفجير مطار كابول (2021): نفذته جماعة «ولاية خراسان»، وأسفر عن أكثر من 170 قتيلًا.
ويتركز 87 ٪ من إجمالى عدد ضحايا الإرهاب فى العالم فى الدول التالية: بوركينا فاسو، مالي، باكستان، سوريا، أفغانستان، الصومال، نيجيريا، ميانمار، والنيجر. وما زالت منطقة الساحل الإفريقى تمثل بؤرة رئيسية للنشاط الإرهابي، حيث استأثرت بنسبة 51 ٪ من وفيات الإرهاب العالمية فى عام 2023، وكانت بوركينا فاسو هى الدولة الأكثر تضررًا.. وسط هذه الخريطة العالمية المعقدة، تبرز التجربة المصرية كنموذج رائد فى مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن والاستقرار فى مواجهة هذه التحديات المتجددة.
«داعش» و»الإخوان»
رغم اختلاف المسميات والتكتيكات، تجمع تنظيما «داعش» و «الإخوان المسلمين» جذورٌ فكرية واحدة، تقوم على تبنى الأيديولوجية المتطرفة، ورفض الدولة الوطنية، والسعى لإقامة ما يسمونه بـ»الخلافة» على أنقاض المؤسسات الشرعية. فكلا التنظيمين، وإن اختلفت استراتيجياتهما وتصنيفاتهما الدولية، يتقاطعان فى استخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية مغلّفة بشعارات دينية، مع استباحة دماء الأبرياء وترويع المجتمعات.
وتعد جماعة «الدولة الإسلامية» (داعش) وفروعها هى المنظمة الإرهابية الأكثر فتكًا، حيث تسببت فى قتل 1636 شخصاً فى 22 دولة فى عام 2023، وفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمى لعام 2024، وقد تصدّرت نيجيريا وأفغانستان وسوريا قائمة الدول الأكثر تضررًا من عمليات التنظيم، بينما شهدت مناطق فى الساحل الإفريقى تصاعدًا لافتًا فى نشاط فروعه، لا سيما جماعة «ولاية غرب أفريقيا». وأكثر من 80 ٪ من ضحايا داعش فى 2023 كانوا من المدنيين العزّل، ما يعكس استمرار التنظيم فى استهداف الأبرياء كوسيلة لترهيب المجتمعات وفرض أيديولوجيته المتطرفة.
وعلى الصعيد المحلي، تصاعدت جرائم جماعة الإخوان الإرهابية بشكل لافت عقب ثورة 30 يونيو 2013، حيث شهدت مصر موجة من الأعمال الإرهابية. ومن أبرز هذه الأعمال: اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات فى 29 يونيو 2015، تفجير كمين الهرم فى ديسمبر 2016، وتفجير كنيستى طنطا والإسكندرية فى إبريل 2017 . كما ارتبط اسم الجماعة، بتشكيل خلايا إرهابية مسلحة، مثل «حسم» و»لواء الثورة»، التى تبنت العديد من الهجمات الإرهابية. هذه الخلايا كانت تتلقى الدعم اللوجستى والتوجيه من قيادات إخوانية فى الداخل والخارج، بهدف إحداث الفوضى وتقويض مؤسسات الدولة وإرهاب المواطنين.
التجنيد الإلكترونى
وقد شهدت السنوات الأخيرة أيضا تحولًا نوعيًا فى استراتيجيات التنظيمات الإرهابية، إذ أصبحت البيئة الرقمية ميدانًا رئيسيًا للنشاط الإرهابى حيث تستغل جماعات الارهاب الانترنت فيما يلي:
-التجنيد الإلكتروني: تعتمد التنظيمات على وسائل التواصل الاجتماعى لاستقطاب الشباب وبث الأفكار المتطرفة بأساليب مرئية ومؤثرة.
التحريض على العنف: تُستخدم المنصات الرقمية فى ترويج المواد الدعائية، وأدبيات التكفير» المحرضة على العنف ضد الدولة أو فئات بعينها.
-التشفير والتواصل المشفر: تعتمد التنظيمات على تطبيقات مشفرة لتبادل المعلومات والتعليمات.
تمويل الإرهاب عبر العملات الرقمية نظرًا لصعوبة تتبعها وسهولة تحويلها عبر الحدود دون رقابة مصرفية. وقد كشفت تقارير دولية عن استخدام جماعات مثل داعش والقاعدة لهذه العملات فى جمع التبرعات وتمويل العمليات.
التجربة المصرية
وفى خضم هذا المشهد العالمى المروع، تبرز مصر كنموذج استثنائى فى مكافحة الإرهاب، حيث نجحت بفضل استراتيجيتها الشاملة وجهودها المتواصلة فى القضاء على الارهاب .
فمصر قدمت نموذجا عالميا فى مكافحة الأرهاب اعتمد على مقاربة شاملة جمعت بين المواجهة الأمنية ضد كل من رفع السلاح، وفى الوقت نفسه مواجهة الفكر المتطرف بالفكر المعتدل، وكانت الحرب على الإرهاب فى سيناء صورة معبرة عن ارادة دولة استطاعت أن تهزم ارهاباً ممولاً دوليا وتحاصره وتجفف منابعه وتفرض سيطرتها التامة على كل أرجاء سيناء، هذه الحرب التى انتصرت فيها مصر بتضحيات رجال الجيش والشرطة وابناء ششعبنا العظيم.
دماء الشهداء ترسم نهاية الإرهاب فى مصر
فمنذ عام 2013 وحتى 2022، استشهد 3277 من أبناء مصر الأبرار بأرواحهم الطاهرة فداءً للأرض والوطن فى حرب لا هوادة فيها ضد قوى الظلام والتطرف، كما أصيب ما يقرب من 13 ألف جريح،. هذه التضحيات الجليلة لم تذهب سدي؛ فقد تُوجت بنجاح الدولة المصرية فى القضاء على الإرهاب، و تسجيل «صفر» عمليات إرهابية وتحقيق الأمن والاستقرار الذى ينعم به الوطن اليوم.
وفى الجانب الوقائى تم اتخاذ إجراءات الكشف والمواجهة والملاحقة لأعضاء الارهابية، وتوجيه ضربات استباقية لهياكل الجناح المسلح للإخوان، و رصد الشائعات التى تروج لها عناصر التنظيم وأبواقه الإعلامية للتحريض ضد الدولة ومؤسساتها، وإدراج العناصر الإرهابية على قوائم الإرهاب، والتحفظ على الكيانات الاقتصادية الداعمة له، إلى جانب إعداد ملفات استرداد للعناصر الهاربة بالخارج.. كما استُخدمت تقنيات حديثة لرصد الشبكات الإرهابية، وتتبع مصادر تمويلها، وملاحقة الصفحات التحريضية عبر الإنترنت.دوليًا، وتوسعت الدولة فى التعاون الأمنى مع الإنتربول والمنظمات الإقليمية لإدراج الإرهابيين الهاربين فى قوائم الارهاب وتجميد أموالهم.
المواجهة الاقتصادية
وبالتوازى مع النجاحات الأمنية، واصلت الدولة جهودها التنموية فبدأت بمعالجة الظروف المؤدية للتطرف، وتجفيف منابعه الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما ظهر بوضوح فى الجهود التنموية الكبري، وعلى رأسها «رؤية مصر 2030»، التى أُطلقت عام 2016 كنسخة وطنية من أهداف التنمية المستدامة.
فعام بعد الآخر زادت الاستثمارات الكلية من أجل ضمان حياة كريمة للمصريين ويكفى أن تشير للعام الأخير حيث بلغت الاستثمارات الكلية المنفذة فى مصر خلال العام المالى 2023/2024 حوالى 1.626 تريليون جنيه مصري، بنمو 5.8 ٪. ووصلت الاستثمارات العامة المنفذة إلى 926 مليار جنيه مصرى بنمو 6.3 ٪.
وقد أسفرت هذه الاستثمارات عن تنفيذ عدد ضخم من المشروعات، من أبرزها الانتهاء من 16،590 مشروعًا تنمويًا فى المرحلة الأولى من مبادرة «حياة كريمة»، التى بلغت قيمة الاستثمارات المنفذة بها 298.3 مليار جنيه بنهاية ديسمبر 2024، بمعدل تنفيذ 86.5 ٪. واستفاد منها نحو 18 مليون مواطن فى 1477 قرية. وهذا يعكس توجه الدولة نحو التنمية الشاملة .
المواجهة الفكرية
تحركت الدولة المصرية مبكرًا نحو المواجهة الفكرية لتجفيف منابع الفكر المتطرف، بإطلاق مبادرة رئاسية عام 2014 لتصويب الخطاب الديني، كما تم تفعيل دور المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية فى المواجهة الفكرية. واضطلع الأزهر الشريف بدور محورى من خلال تأسيس مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بـ 12 لغة، لإنتاج دراسات وكتب وحملات توعوية، فيما واصلت وزارة الأوقاف جهودها لمكافحة الفكر المتطرف والعمل على تصحيح الخطاب الديني، وتنظيم دورات تثقيفية للأئمة، ونشر أكثر من 100 عنوانًا وكتابًا مترجمًا. وأسهمت الكنيسة المصرية والمجالس القومية، إلى جانب المؤسسات الثقافية، فى تعزيز قيم المواطنة والتسامح، وكان لتشييد مسجد الفتاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية رسالة رمزية فى ترسيخ ثقافة العيش المشترك.
المواجهة التشريعية
ظل مفهوم -الإرهاب- مثارًا للجدل فى الأوساط الدولية، نتيجة غياب تعريف قانونى موحد يُجمِع عليه المجتمع الدولي، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على جهود المكافحة الجنائية فى العديد من الدول. وعلى الرغم من تعدّد المحاولات التعريفية، فقد تصدّى المشرع المصرى لهذا الفراغ منذ عام 2015، حين أصدر القانون رقم 94 بشأن مكافحة الإرهاب، والذى عرّف فى مادته الثانية العمل الإرهابى بأنه:
كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع، بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه للخطر، متى كان من شأن ذلك إيذاء الأفراد أو ترويعهم، أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم للخطر..-
وتتميز الجريمة الإرهابية بعدد من الخصائص التى تميزها عن غيرها من الجرائم التقليدية، مما يجعلها تشكل تحدياً أمنياً فريداً :
البعد السياسى أو العقائدي: فهى جريمة لا تستهدف مجرد الإضرار الجنائي، بل تسعى بالأساس إلى إكراه الدولة أو تغيير سياساتها، أو بث الرعب فى نفوس المواطنين، تحقيقاً لهدف أيديولوجي، سياسي، أو عقائدى معين.
الطابع الجماعى أو الشبكي: غالباً ما تُرتكب هذه الجرائم فى إطار تنظيمات أو شبكات إرهابية، قد تكون محلية أو عابرة للحدود. تتميز هذه الكيانات بقدرتها على التوسع، وقد تكون صغيرة الحجم لكنها شديدة التأثير والتخطيط.
اللامركزية والمرونة: تتخذ الجريمة الإرهابية صوراً متعددة ومتطورة، من العمليات المسلحة التقليدية والهجمات الانتحارية، إلى التحريض الرقمي، والاختراقات السيبرانية، واستخدام التقنيات الحديثة فى التجنيد والتخطيط والتمويل. هذا التنوع والقدرة على التكيف يجعلان مكافحتها أكثر تعقيداً وتحدياً.
الرمزية الإعلامية: تسعى هذه الجرائم بشكل متعمد إلى إحداث صدى إعلامى واسع النطاق يتجاوز الأثر الفعلى المادى للواقعة. الهدف من ذلك هو ترويع الرأى العام، وتضخيم تأثير الهجوم، وتحقيق أهداف نفسية وسياسية للجماعة الإرهابية.
وبحسب النظرية العامة للجريمة، تقوم الجريمة الإرهابية على ركنين أساسيين:
> الركن المادي: ويتمثل فى السلوك الإجرامى الملموس، الذى يتخذ أشكالاً متنوعة. يمكن أن يكون عنفًا مباشرًا كالتفجيرات، والقتل، والتخريب، أو سلوكًا داعمًا مثل تمويل الإرهاب، والتحريض عليه عبر الإنترنت، أو حتى استغلال التكنولوجيا الحديثة لتخطيط وتنسيق العمليات الإرهابية.
> الركن المعنوي: ويتمثل فى القصد الجنائى الخاص، أى نية الجانى لتحقيق غرض إرهابى محدد. هذا الغرض يشمل الإخلال بالنظام العام، أو المساس بالأمن القومي، أو إلقاء الرعب بين الأفراد، أو إجبار سلطات الدولة على اتخاذ أو عدم اتخاذ قرار معين، مع إدراك الجانى التام لخطورة ما يقوم به من أفعال وآثارها المدمرة.
وقد عملت مصر على بناء إطار مؤسسى وتشريعى متكامل لمكافحة الإرهاب، يرتكز على محورين رئيسيين:
الإطار المؤسسى
نيابة أمن الدولة العليا: وهى الجهة المختصة بالتحقيق فى جرائم الإرهاب وفقًا لقانون الإجراءات الجنائية، وتتمتع بصلاحيات موسّعة، تشمل التفتيش والمراقبة وضبط الأدلة الرقمية.
دوائر الإرهاب بمحاكم الجنايات: أنشئت هذه الدوائر بقرار من مجلس القضاء الأعلي، و تهدف إلى تحقيق العدالة الناجزة فى قضايا الإرهاب، مع احترام حقوق الدفاع ومبادئ المحاكمة العادلة.
2- الإطار التشريعي:
يشكل القانون رقم 94 لسنة 2015 حجر الزاوية فى المنظومة القانونية لمكافحة الإرهاب، إذ اعتمد تعريفًا موسّعًا للجريمة الإرهابية، وجرّم مجموعة واسعة من الأفعال، من بينها:إنشاء أو إدارة جماعة إرهابية ،التمويل أو الإمداد بأى صورة مادية أو معلوماتية،التحريض، والتخطيط، وتسهيل العمليات الإرهابية،استغلال وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعى فى نشر الفكر المتطرف والتحريض عليه.
وقد حدد القانون عقوبات رادعة تتراوح بين السجن المؤبد والإعدام، بحسب جسامة الفعل الإرهابي.