تشهد العلاقات الاقتصادية بين ضفّتى الأطلنطى واحدة من أكثر مراحلها توترًا منذ عقود، مع اقتراب موعد دخول الرسوم الجمركية التى أعلنها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عبر منصة «تروث سوشيال»حيّز التنفيذ بدءا من الأول من أغسطس المقبل، والتى تستهدف واردات الاتحاد الأوروبى بنسبة تصل إلى 30٪، وهو ما وصفه مفوض التجارة فى الاتحاد الأوروبى ماروش شيفتشوفيتش بأنه «أشبه بحظر فعلي» للتجارة عبر الأطلنطي، مما أدى إلى تراجع اليورو إلى أدنى مستوى له فى ثلاثة أسابيع متأثراً بتهديدات ترامب مما دفع عواصم أوروبية إلى المطالبة برد حاسم إذا فشلت محاولات التسوية.
برَّر ترامب الرسوم الجديدة بنسبة 30٪ بالإشارة إلى الخلل فى الميزان التجارى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتُعد هذه النسبة أعلى بكثير من الـ20٪ التى أعلنها الرئيس الأمريكى فى أبريل الماضي، قبل أن يتراجع عن قراره بعد انهيار الأسواق المالية.
وتتزايد المخاوف من أن السياسات الحمائية الأمريكية لن تقتصر على التبادل التجاري، بل قد ترتدّ على الداخل الأمريكى نفسه، من خلال رفع معدلات التضخم وإرباك الأسواق المالية، أما فى الجانب الأوروبي، فالمعركة تبدو أشبه بكارثة وشيكة، تهدد سلاسل التوريد، وتضرب قطاعات التصدير الحيوية، و فى ظل هذا التصعيد الحاد، تتعالى التحذيرات الأوروبية من خطر الانزلاق نحو حرب تجارية عبثية، فى لحظة تاريخية حرجة زجّت بالغرب فى قلب مشهد اقتصادى وسياسى متأزم.
وتسعى الدول الأوروبية إلى الحفاظ على وحدة موقفها فى هذه القضية، رغم التفاوت فى مدى تأثر اقتصاداتها بتهديدات ترامب الجمركية.
فى البداية قررت بروكسل تأجيل الرد حيث أكَّدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن التكتل لا يزال يفضل التوصل إلى حل تفاوضى مع واشنطن مشيرة إلى أن المفوضية قرَّرت تمديد تعليق الإجراءات المضادة المؤقتة حتى أوائل أغسطس، فى محاولة لإفساح المجال أمام مزيد من المحادثات.
وأضافت فون دير لاين أن الاتحاد ورغم التحضير لإجراءات صارمة، لم يصل بعد إلى استخدام أداة مكافحة الإكراه وهى آلية استثنائية تسمح للاتحاد الأوروبى بالرد على الضغوط الاقتصادية التى تمارسها دول أجنبية على أى من أعضائه، ليس فقط عبر الرسوم الجمركية، بل تتيح فرض قيود تجارية شاملة بما يتجاوز الرسوم الجمركية التقليدية، وتشمل الخدمات والاستثمار والمشتريات العامة، ومن بين أدوات الرد التى يدرسها الاتحاد: تقييد دخول السلع والخدمات الأمريكية إلى أسواقه، وفرض ضوابط على الاستثمارات القادمة من الولايات المتحدة، إضافة إلى قيود على التصدير فى قطاعات استراتيجية.
وأشارت فون دير لاين إلى أن الرسالة التى تلقاها الاتحاد من واشنطن تضمنت تهديدًا واضحًا ببدء تطبيق الرسوم، ما يُضفى على المشهد طابعًا من المواجهة، ووفقًا لما جاء فى رسالة ترامب، فإن واشنطن لن تتراجع عن الرسوم حتى وإن قرر الأوروبيون الرد، بل ستقوم برفع الرسوم بنسبة إضافية مساوية لأى إجراء مضاد،مما لا يخفى طابعه العدائي، فى تصعيد بدا كأنه إعلان ضمنى لحرب اقتصادية.
لاحقاً،أكمل الاتحاد الأوروبى إعداد قائمة من الإجراءات المضادة تستهدف فرض رسوم على بضائع أمريكية بقيمة 72 مليار يورو (84مليار دولار)، تشمل طائرات شركة «بوينج» والسيارات ومشروبات، وذلك فى حال قرر الاتحاد الرد، وقُدَّمت المفوضية الأوروبية للدول الـ27 الأعضاء فى الاتحاد اللائحة بالرسوم خلال اجتماع وزراء تجارة الاتحاد فى بروكسل الاثنين الماضي.
وقال شيفتشوفيتش ، بعد الاجتماع: «نتفاوض أولا، ولكننا نستعدّ فى الوقت ذاته»، مؤكدا أنّ هذا موقف مشترك لكل الدول الأعضاء.
فى الوقت نفسه من المتوقع أن تتواصل المفاوضات بين الطرفين حيث مازال الاتحاد الأوروبى يأمل فى الوصول إلى حل تفاوضى مع واشنطن بشأن اختلالات الميزان التجارى بين الولايات المتحدة والتكتل، والرسوم الجمركية المرتفعة،فيما يستعد شيفتشوفيتش للقاء الممثلة التجارية الأمريكية ليندسى جرير، فى محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسى قبل بدء سريان الرسوم.
وقد حذَّرت كل من برلين وباريس من ضرورة اتخاذ خطوات صارمة حال فشل المفاوضات،ودعا الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى الإسراع فى تجهيز حزمة التدابير الانتقامية، وكتب فى منشور على منصة إكس أن الوقت حان لأن تثبت المفوضية الأوروبية قدرتها على الدفاع عن المصالح الأوروبية بكل حزم.
و قال المستشار الألمانى فريدريش ميرتس إن الولايات المتحدة «لا ينبغى لها الاستهانة باستعداد الاتحاد الأوروبى للرد على الرسوم الجمركية»، وأضاف «الهدف هو التوصل لحل سريع، أنا على تواصل مباشر مع الرئيس ترامب ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين»، مؤكداً أن أوروبا لا تزال تمتنع عن اتخاذ تدابير مضادة فى الوقت الراهن، لكنها لن تتردد إذا استمر التصعيد.
و توقَّع ميرتس أن تؤثر الرسوم بشدة على خطط الحكومة الألمانية لخفض الضرائب وزيادة الإنفاق على البنية التحتية، قائلاً: «سيتوجب علينا تأجيل أجزاء واسعة من برامجنا الاقتصادية لأنها ستصطدم بعصب الصناعة التصديرية الألمانية».
تُظهِر التقديرات أن تطبيق الرسوم الأمريكية على السلع الأوروبية ، قد يجبر بروكسل على إعادة النظر فى نموذج اقتصاده المعتمد على التصدير، ويتوقع محللو باركليز، بحسب رويترز، أن تؤدى الرسوم إلى خفض الناتج المحلى لمنطقة اليورو بنسبة 0.7 نقطة مئوية، مع تأثير أكبر على ألمانيا، حيث قد تفقد اقتصادها ما يفوق 200مليار يورو حتى عام 2028، وفقاً لمعهد الاقتصاد الألماني، وقد يضطر البنك المركزى الأوروبى إلى خفض معدل الفائدة على الودائع إلى 1٪ بحلول مارس 2026، إذا تراجعت معدلات التضخم عن مستهدف 2٪، كما تشير التقديرات.
وفى الأجل الأطول، تطرح الأزمة تساؤلات أوسع حول كيفية تعويض أوروبا لفقدان العائدات والنمو اللازمين لتمويل مشاريع الرعاية والبنية التحتية والدفاع.
و رغم سعى الاتحاد الأوروبى لتوسيع شراكاته التجارية، مثل اتفاقية ميركوسور المتعثرة، فإن العقبات البيروقراطية تبطئ وتيرة توقيع الاتفاقات الجديدة، ويقدِّر صندوق النقد الدولى أن الحواجز الداخلية فى السوق الأوروبية تعادل رسوماً بنسبة 44٪ للسلع و110٪ للخدمات.
لكن الحرب التجارية التى يُلوّح بها ترامب لا تقتصر تداعياتها على أوروبا وحدها، بل قد تؤدى إلى نتائج عكسية تمامًا لما تهدف إليه، إذ يُنتظر أن تُلقى بظلالها الثقيلة على الداخل الأمريكى أيضاً، فطبقاً لتقديرات وكالة «بلومبيرج»، من المرجّح أن تسجِّل الولايات المتحدة ارتفاعًا فى معدلات التضخم خلال الأشهر المقبلة، بسبب الرسوم الجديدة التى ستطال السلع المستوردة من أوروبا، وأشارت الوكالة إلى أن هذا التأثير سيكون تدريجيًا لكنه محسوس، خاصة فى ظل تباطؤ سوق العمل وتردُّد الشركات فى تمرير الكلفة الإضافية إلى المستهلكين.