فى مشوارى الصحفى الطويل محطات كثيرة، بعضها كان علامة فارقة فى حياتي؛ وشأنى شأن كل مجتهد فى عمله ومخلص لمهنته اجتهدت وجاهدت منذ تعيينى محررًا صحفيًا بجريدة الجمهورية، حتى ترقيت لكل المناصب بالكفاءة والجدارة وليس بالأقدمية التى خلقت سيولة جعلت معظم الأقسام نوابًا لرئيس التحرير مقابل محرر واحد، ترقيت من محرر إلى رئيس قسم مرورًا بنائب رئيس تحرير، ثم نائب أول لرئيس التحرير، ثم رئيسًا للتحرير؛ فرئيسًا لمجلس إدارة دار التحرير للطبع والنشر (الجمهورية)، لكن مسيرتى الصحفية على كثرة محطاتها فإن أكثر ما أعتز به هو قسم الخدمات الصحفية المتميزة «139 جمهورية الذى شرفت؛ بتكليف من الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ سمير رجب، بالإشراف عليه فترة طويلة جنبًا إلى جنب مهامى الصحفية الأخري؛ وكان هذا القسم أيقونة صحفية جماهيرية سبقت زمانها تكنولوجيًا وجماهيريًا؛ باستحداث لون صحفى جديد للصحافة العربية؛ هو صحافة المواطن الذى شارك وقتها فى صناعة الخبر والتحقيق والتقرير وحتى الحوادث التى كانت تصل لمسامع الجريدة قبل أن تعلم بها الأجهزة المعنية ذاتها باستخدام الهاتف قبل ما يقرب من ربع القرن.. وقبل أن يتربع المحمول وتطبيقاته على عرش التكنولوجيا.
كانت البداية بانتقال «الجمهورية» لمبناها الفخم «الذكى» (تصميمًا وتجهيزًا) فى شارع رمسيس؛ حيث طلب منى رئيس مجلس الإدارة وقتها الأستاذ سمير رجب صاحب القفزة الكبيرة والنقلة النوعية لدار التحرير لتظل بين الكبار، وقد عهد إليَّ بالإشراف على (139 جمهورية) منذ كان فكرة خرجت إلى النور بين جنبات المبنى العتيق للجمهورية بشارع زكريا أحمد واستمرت هناك لنحو 3 سنوات، وبالفعل وافقت على مهمة تأسيس والإشراف على هذا القسم الجديد ؛ شريطة اختيار جميع أعضائه صحفيين وإداريين بنفسي، وعلى رأسهم الزميلة القديرة جمالات يونس لتكون نائبة لى لما تتميز به من الكفاءة وحسن الإدارة والحسم والجدية والمهنية .. وبالفعل وقعنا البروتوكول مع وزارة الاتصالات فى 14من أكتوبر 2000..وبدأنا العمل فى العام التالى مباشرة وانخرط معنا أكثر من 100 صحفى وإدارى بعضهم من داخل المؤسسة وبعضهم من خارجها، وكلهم فتحوا بيوتًا من العمل فى هذ القسم الجديد، واجتهدوا فى عملهم حتى انتشروا فى أقسام الجريدة صعودًا للديسك المركزي، وتولى مهام قيادية بالصحيفة.
ولا أبالغ إذا قلت إن من عملوا فى قسم«139 جمهورية» مارسوا كل فنون العمل الصحفي؛ فهم يأتون بالخبر الجديد، والتحقيق السريع، والمتابعة اليومية وصياغة الموضوعات فى ديسك خاص بهم جرى فيه تجهيز ومراجعة كل المادة الصحفية قبل إرسالها للديسك المركزى تمهيدًا لنشرها بالصحيفة.
كان كل من عمل فى (139جمهورية) يملك الصلاحية والقدرة على الاتصال بكبار المسئولين والمحافظين والوزراء، بل وإحضارهم إلى الجريدة ليديروا بأنفسهم حوارًا مباشرًا مع المواطنين عبر الهاتف ليتلقوا استفسارات الناس وشكاواهم وتنفيذ مطالبهم.
لقد وصلت مصداقية 139 جمهورية لأعلى درجاتها؛ ذلك أنه كان يتلقى الأخبار والحوادث المختلفة فى شتى القطاعات حتى قبل أن تعلمها الأجهزة المعنية ذاتها، وكان يجرى تحويل بعض الشكاوى إلى تحقيق صحفى مستمد من واقع الناس، وهو ما يجعلنى أقول باطمئنان إن كل من عمل بهذا القسم اكتسب الاحترافية والمهنية والقدرة على تحويل مجرد شكوى بسيطة إلى خبر أو تحقيق أو تقرير صحفى يثرى محتوى الجريدة ويزيدها قوة وانتشارًا والأهم مصداقية لدى المسئول والقارئ سواءً بسواء.
لقد كان «139 جمهورية» خدمة صحفية انفردت بها جريدة الجمهورية وقتها وامتازت بها على سائر الصحف وقتها ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى والشرق الأوسط كله وقد حافظ على تألقه حتى وقعت أحداث يناير 2011؛ وكان مندوبو «القسم» ومحرروه «خلية نحل» يواصلون العمل ليل نهار دون كلل أو ملل؛ منهم من يتلقى شكاوى الناس واستغاثاتهم واتصالاتهم، مصغيًا باهتمام وبمتابعة دقيقة لمتاعبهم وأوجاعهم، ومنهم من كان يطوف بها على المصالح والأجهزة الحكومية والوزارات المختلفة ويطرق أبواب المسئولين بحثًا عن حق تأخر عن صاحبه، أو دفعًا لمشقة قد لا يطيقها ذوو الحاجة والأعذار.. وكيف تحولت تلك الشكاوى والاستغاثات إلى حملات صحفية عاجلة حققت نجاحات باهرة شكلت قناة تواصل سريعة بين المسئول والمواطن، وهى شكاوى يومية كانت تنهمر لدرجة أنها يمكن أن تملأ صفحات 5 جرائد كاملة واستجابات تحتاج إلى مساحات كبيرة لنشرها، وهو ما نجح فى خلق شعبية كبيرة لجريدة الجمهورية آنذاك؛ ذلك أنها استطاعت مخاطبة جميع فئات المجتمع، وفى القلب منهم البسطاء والفقراء وأصحاب الحاجات؛ حتى أن الفكرة تطورت لتخصص باب «الفرحة والأمل» لأعمال الخير ومساعدة المحتاجين وتقديم العلاج المجانى لمن لا يقدر على شرائه بعد التأكد من حالة طالبى الخدمة بطرق موضوعية، وقد وفر ذلك دعمًا ماديًا للأسر والأفراد الأكثر احتياجًا؛ إذ كان يسهم فى تزويج اليتامى وعلاج الفقراء وتفريج الكرب عن الغارمين بسداد ديونهم، وقد تعاظمت الثقة فى قسم الخدمات الصحفية لدرجة أن زمرة من رجال الأعمال والشركات بادرت للتبرع بمبالغ كبيرة للأعمال الخيرية عن طريق الجريدة، ناهيك عن إسهامات بعض الوزارات، وهو ما عكس الدور الاجتماعى والخيرى للجمهورية جنبًا إلى جنب مع الدور التنويرى والرقابي.
الخط الساخن للجمهورية امتاز بديناميكية عالية واكتسب زخمه من معطيات التكنولوجيا وكسبت فعاليته من اسمه ورقمه المختصر (ثلاثة أرقام فقط) وشكل علامة فارقة وإنجازاً تمثل فى الاقتراب من القاريء وسرعة الاستجابة لمشكلاته وتقديم ما ينفعه، وتعميق الدور المجتمعى للجريدة، وهو ما زادها انتشارًا وتوزيعا..
ليتنا حافظنا على هذا الرقم المميز الذى ضاع على المؤسسة بعد أن تركت رئاستها وبعدما صنع نجاحات مشهودة.. وكانت له إسهاماته الحيوية فى حياة الناس، وأزال عنهم هماً، ومهد للحكومة طريقاً استشعار لنبض الناس وأنينهم ومواجعهم ومدى رضاهم أو عدم رضاهم عن خدماتها وأداء مرافقها وموظفيها.. ولا أبالغ إذا قلت إن الجميع خسر بتوقف الخط الساخن عن «الرنين».. فهل يأتى يوم يعيد الحياة لهذه الخدمة الصحفية التى سبقت زمانها..؟!