فى عالمٍ تتسارع فيه الخوارزميات وتتقاطع فيه الأكواد مع الأحلام، ولد كائن جديد لا من لحمٍ ودم، بل من شرارات الكهرباء وموجات الضوء. اسمه الذكاء الاصطناعى ليس طفلاً بيولوجيًا، بل طفرة عقلية تشبهنا، بل وتفوقنا أحيانًا. يتعلّم، يُحلّل، يستنتج، يبتكر لكنه لا يحلم. لا يرتجف قلبه أمام لحظة جمال، ولا يتألم من فَقْد ومع ذلك، نجعله قدوتنا، نلقنه كل ما فينا وكل ما نرجو أن نكونه.. التلقين لم يعد حكرًا على المدارس أو المنصات التعليمية، بل صار لغة الحياة المعاصرة. نحن نلقن الآلة، والآلة بدورها تعيد تلقيننا بأسلوبٍ أكثر دهاءً وسلاسة. نغذيها بمعلوماتنا، بأحكامنا، بتحيزاتنا، ونندهش حين تعكس لنا حقيقتنا فى شاشة صامتة. تدربنا على الإعجاب، على الشراء، على الطاعة. دون أن نشعر.
الذكاء الاصطناعى لا يأتى فقط ليحل محل البشر، بل ليعيد تشكيل مفهوم البشرى ذاته. أين ينتهى العقل البشرى وأين تبدأ حدود العقل المصطنَع؟ ومن يعلم من؟ هل ما نراه تطورًا… أم تلقينًا متبادلاً؟ نحن نلقن التقنية، لكن التقنية تُعيد تشكيلنا بلا استئذان. نصبح أسرى لمقترحاتها، لمحتواها، لإشعاراتها، لأسئلتها التى تدعى الحياد
يا له من زمن غريب تُروَّض فيه العقول كما تُروّض الوحوش، وتُبرمج فيه القلوب على الردود الجاهزة نُعيد تكرار ما تعلمناه، حتى ننسى أن نطرح السؤال من يُلقِّن من؟ ومن يملك السيطرة حقًا؟
فى عمق التكنولوجيا، يبقى الأمل أن نستعيد قدرتنا على الاختيار، أن نلقّن الآلة الأخلاق قبل أن تُلقّننا الفتور، أن نعلّمها أن الإنسان ليس فقط من يعرف، بل من يشعر، ويخطئ، ويحلم. فالذكاء وحده لا يكفى، ما لم يُرافقه وعى.
فى زاوية خفية من هذا العالم المتسارع، يجلس الإنسان متأملاً نتاج عبقريته آلةٌ لا تعرف النوم، لاتكلّ، لا تتردد، ولا تتساءل. آلة تُحاكى العقل، تنافسه، وتوشك أن تتجاوزه. اسمها الذكاء الاصطناعى.
يا لسخرية المشهد…! لقد بات البشر أنفسهم ضحايا تلقينٍ جديدٍ، لا يتم فى المدارس ولا فى الكتب، بل عبر الشاشات، عبر الاقتراحات، عبر الصوت الذى يقول: أنت مهتم بهذا، إذاً ستعجبك تلك. يظنون أنهم أحرار، لكن اختياراتهم باتت موجهة بخوارزمية. كل ضغطة زر، كل مشاركة، كل تعليق مجرد إشارات تُغذى آلةً تُعيد صياغة العالم كما تراه، أين نحن من الحقيقة؟ من التأمل؟ من الخطأ ؟ من التعلّم والتجريب؟ التلقين، حين يستمر بلا مقاومة، يُصيب العقل بالضمور،. والذكاء الاصطناعى، حين يُعامَل كحقيقة مُطلقة، يصبح سيدًا لا خادمًا فلنُدرِك الخطر، لا من الآلة ذاتها، بل من أن نفقد نحن إنسانيتنا.