فى أجواء تداعيات ما بعد الحرب الإيرانية – الإسرائيلية ووصول الصواريخ الإيرانية إلى بئر سبع والتى تبعد عن مفاعل ديمونة 30 كم فقط وفى أجواء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة والممتدة من 2023 حتى اليوم «2025» منذ فترة وقعت فى يدى نسخة نادرة من الرواية الرائعة «الطريق إلى بئر سبع» للروائية الإنجليزية إيثيل مانين ترجمة د. نظمى لوقا، طبعة عام 1967 صادرة عن سلسلة روايات عالمية، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر ـ بالقاهرة، وجدتها عند أحد باعة الكتب القديمة فى سور الأزبكية «أو ما تبقى منه»، وهى رواية لا تحكى عن الصواريخ الإيرانية التى وصلت إلى بئر سبع لأنها لم تكن موجودة حين كتابتها وكان شاه إيران وقتها صديقا مخلصا لأمريكا وإسرائيل !! لكنها تحكى فى قالب أدبى مؤثر مأساة نكبة 1948، من خلال قصة عائلة مسيحية فلسطينية يتم تهجيرها من اللد إلى رام الله إلى أريحا، مشياً على الأقدام مع وصف دقيق لمشاهد الموت البطىء وآثار الإجرام الصهيونى لانتزاع شعب من أرضه، وزرع قطعان من المستوطنين الغزاة محلهم، «تماما كما يحدث اليوم 2025» وكيف تفرقت السبل بهذه العائلة إلى موت وهجرة واستشهاد فى تتابع ملحمى لفصول وأحداث الرواية الرائعة بكافة المعايير الفنية، إنها رواية ـ فى ظنى تحتاج اليوم ونحن فى أجواء العشرين شهرا من الحرب غير المتماثلة.. حرب الإبادة على غزة إلى إعادة نشرها وقراءتها على أوسع نطاق، وسأكتفى فى هذا المقال بتلخيص لأبرز ما تضمنته كلمة المؤلفة الافتتاحية وهى كلمة سياسية بامتياز حكت فيها وبعد رحلات متعددة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، عن أصل الصراع وأبعاده فى كلمات قليلة موجزة ذات دلالة، وكنت قد سبق لى التنويه عنها منذ فترة فى إحدى المجلات الأسبوعية المصرية ولكن يبدو أن لا أحد يقرأ! تبدأ الروائية مقدمتها السياسية بكلمات تقول فيها إنه:
حتى 29 نوفمبر سنة 1947 كان ثمة بلد يسمى فلسطين، هو الوطن العتيق للفلسطينيين القدامى، وهو بلد عربى الصبغة بصورة واضحة، وحين صدر إعلان «بلفور» فى نوفمبر سنة 1917 مؤذناً بأن الحكومة البريطانية تؤيد «قيام وطن قومى لليهود فى فلسطين» كانت غالبية السكان هناك من العرب، بنسبة تزيد على 90 ٪ وكان فى فلسطين فى ذلك الوقت نحو 50.000 يهودى، أما المسلمون والمسيحيون فكان عددهم وقتئذ نحو 670.000 ، ولكن فى سنة 1915 كان السير «هربرت صمويل» اليهودى والصهيونى البارز قد نادى فى مذكرة بعنوان «مستقبل فلسطين» بهجرة ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود إلى فلسطين تحت الحماية البريطانية، فوضحت من ذلك المطامع الصهيونية بصورة لا خفاء فيها، وثبت أن مايرمون إليه ليس إنشاء وطن قومى وملاذ لضحايا الاضطهاد من اليهود فى مختلف البلدان، بل الهدف الحقيقى هو إقامة دولة يهودية مكتملة الأركان!.
ثم تقول المؤلفة: ولما صدر إعلان بلفور بعد ذلك بثلاث سنوات تقريباً، واجه واقعاً أقل من ذلك بكثير، فكان الحل البديهى فى نظر اليهود هو ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بحيث يصبح اليهود هناك أغلبية، وفى سنة 1919 أصدر الدكتور «وايزمان» الزعيم الصهيونى وقتئذ تصريحه المشهور بأن فلسطين ينبغى أن تغدو «يهودية مثلما تعتبر إنجلترا إنجليزية».
وفى سنة 1920 تجسم إعلان بلفور فى صورة الانتداب الإنجليزى على فلسطين، وبذلت محاولة للتحكم فى الهجرة اليهودية، ولكن الهجرة غير المشروعة ظلت فى ازدياد عن طريق مكتب للجوازات المزورة فى برلين، فازدادت عداوة العرب، ووقع شغب وحدثت اضطرابات وفرضت أحكام عرفية واستمر الكفاح الوطنى للحصول على الاستقلال.
>>>
ثم تواصل مؤلفة الرواية مقدمتها السياسية قائلة: وعند نشوب الحرب العالمية الثانية لم يكن الوطن القومى لليهود قد تحقق فى صورة ذاتية، ولكن تعداد اليهود كان قد قفز من 50.000 إلى 600.000 ، وكانت حكومة الانتداب قد منحت اليهود سيطرة متزايدة على مقدرات البلد الاقتصادية، وكانت الصناعات الصهيونية تتمتع بحماية الحكومة، فى حين كانت القرى العربية تدمر لتفسح المجال للمستعمرات الصهيونية، وصار لليهود مستشفياتهم ومدارسهم ومنظماتهم السياسية، وتمتعوا بمعاملة متحيزة من حماتهم البريطانيين.
كما كانت الحرب العالمية الأولى سبباً فى إعاقة المطامع الصهيونية، كذلك عاقت الحرب العالمية الثانية الآمال العربية الوطنية، وثبت أن ما ادعى من اضطهاد النازى لليهود فى ألمانيا كان سنداً قوياً للصهيونية.. فتألفت لجنة إنجليزية ـ أمريكية ـ ثلاثة من بين أعضائها الستة من غلاة الصهيونية ـ زارت فلسطين فى سنة 1946 وأوصت فى تقريرها بإدخال مائة ألف يهودى فوراً إلى فلسطين، وقد استعجل الرئيس «الدمية» على حد تعبير مؤلفة الرواية ترومان تنفيذ ذلك، مع ترك الباب مفتوحاً لمزيد من التهجير مستقبلاً!.
ولما لم يصل مؤتمر فلسطين المنعقد فى لندن فى سنتى 1946 ، 1947 إلى اتفاق، لأن ممثلى العرب فى ذلك المؤتمر طالبوا بقيام دولة عربية ديمقراطية مستقلة فى فلسطين، أحيلت «مسألة فلسطين» إلى الأمم المتحدة، وخصصت دورة غير عادية للفصل فيها، وتحت الضغط الصهيونى الذى تؤيده الولايات المتحدة، أوصت اللجنة الخاصة التى ألفتها الأمم المتحدة لشئون فلسطين بتقسيم ذلك البلد.
>>>
> وبعد.. تستمر مؤلفة هذة الرواية التاريخية فى حديثها الباكى عن نكبة فلسطين 1948 وما جرى فى أثنائها من مؤامرات دولية قاتلة تماما – ما أشبه الليلة بالبارحة – تماما كما يجرى اليوم 2025 فى النكبة الثالثة.. نكبة إبادة قطاع غزة وسط صمت وتواطئ إقليمى ودولى مخيف.. «وللحديث بقية الأسبوع القادم».