فى لحظة إقليمية فارقة، تتشابك فيها التحديات الأمنية والسياسية فى شرق القار الافريقية، وتحضر فيها حسابات المصالح الدولية بقوة، تأتى زيارة الرئيس الصومالى حسن شيخ محمودإلى مصر ولقائه بالرئيس عبدالفتاح السيسى لتحمل دلالات عميقة ورسائل تتجاوز حدود البروتوكول السياسى المعتاد.
الزيارة التى جرت فى مدينة العلمين الجديدة، ليست مجرد محطة فى أجندة العلاقات الثنائية بين بلدين شقيقين، بل هى امتداد طبيعى لمسار استراتيجى آخذ فى التشكل بين القاهرة ومقديشو، يعبر عن نضوج رؤية مصرية تجاه منطقة القرن الافريقي، ووعى صومالى متزايد بأهمية استعادة التوازنات الإقليمية فى ظل تصاعد التدخلات الخارجية فى الشأن الصومالي.
يدرك صناع القرار المصرى جيداً أن أمن البحر الأحمر والقرن الافريقى بات جزءاً من الأمن القومى المصري، وأن ما يجرى فى مقديشو يؤثر على قناة السويس وباب المندب وشبكات الملاحة العالمية. ومن هنا جاءت تصريحات الرئيس السيسى واضحة وصريحة بشأن أهمية تكثيف التعاون فى الملفات الأمنية والعسكرية، وتمكين الدولة الصومالية من بسط سيادتها ومواجهة الإرهاب.
الرؤية المصرية، التى تتسم بالاتزان والاحترام المتبادل، تنطلق من دعم بناء مؤسسات الدولة الوطنية فى الصومال، بعيداً عن منطق المحاور، أو فرض الاملاءات وهو ما يمنح هذا التعاون مصداقية خاصة مقارنة بتجارب أخرى فى المنطقة.
تكرس الزيارة واحدة من الثوابت الجديدة فى السياسة الخارجية المصرية: والعودة إلى افريقيا بقوة ولكن بروح شراكة لا استعلاء لم تعد العلاقات المصرية الافريقية مجرد شعارات عن «الجذور التاريخية»، بل مشاريع تنموية، وتعاون عسكرى مؤسسى وتنسيق فى المحافل الدولية.
الإعلان عن تنفيذ بنود الاتفاق السياسى الموقع فى يناير الماضي، واستمرار العمل فى إطار بروتوكول التعاون العسكرى الموقع فى أغسطس 2024، يدل على ان ما يجرى ليس حواراً دبلوماسياً عابراً بل تأسيس لعلاقة إستراتيجية طويلة الامد، تصب فى مصلحة الاستقرار الإقليمى ومكافحة الإرهاب، وتمنح الصومال أدوات حقيقية للنهوض بمؤسساتها الأمنية والسياسية.
حرص الرئيس السيسى فى كلمته على التأكيد أن دعم الصومال ليس فقط مسئولية إقليمية بل التزام دولي، فى إطار بعثة الاتحاد الافريقى الجديدة وهذه رسالة موجهة بوضوح إلى المجتمع الدولى لا يمكن ترك الدول وحدها فى مواجهة الإرهاب والتفكك، ولابد من توفير تمويل مستدام ودعم فنى وسياسى حقيقي.
وسط صراعات النقوذ التى تجتاح القارة السمراء، تثبت مصر مرة أخرى أنها طرف مسئول، يعمل على إرساء الاستقرار لا إشعال الفتن، زيارة الرئيس الصومالي، التى تأتى بعد شهور قليلة من توقيع الاتفاقات الثنائية، تعنى أن القاهرة لم تعد مجرد داعم سياسي، بل شريك موثوق فيه على الأرض، سواء فى تدريب الكوادر، أو دعم المؤسسات أو نقل الخبرات.
ما بين مصر والصومال، لا تجمعهما فقط روابط التاريخ والدين، بل مصالح مشتركة تتجدد. وفى توقيت بالغ الحساسية، تشكل هذه الزيارة خطوة جديدة نحو ترسيخ خريطة تعاون جنوب – جنوب، تضع المصالح الافريقية فى الصدارة، وتمنح صوتاً جديداً للتوازن الإقليمي، تقوده مصر من موقع القوة الهادئة والعقلانية.
زيارة تحمل رسائل متعددة، لكنها تصب جميعاً فى عنوان واحد: الأمن والتنمية فى افريقيا لا يمكن أن يصنعا إلا بإرادة افريقية حرة، ومصر حاضرة بكل ثقلها لتكون جزءاً من الحل لا المشكلة.