ما يبدو أمامنا نوع من الفوضى أو شكل من أشكال العبث هو ليس كذلك جملة وتفصيلا، فكل ما يجرى أمام أعيننا ونظنه صدفة، هو فى الأصل جزء أصيل من خطة طويلة وممتدة وما الصدف التى نصادفها فى حياتنا إلا سطور من سيناريوهات معدة بعناية فائقة، سمعنا عن الفوضى الخلاقة وظنها البعض فى حينها مزحة ثقيلة، لقد كانت سايكس بيكو التى رسمت الحدود الجغرافية الحالية للعديد من الدول فى اقليم الشرق الأوسط تبدو فى ظاهرها من مقتضيات ذلك الزمان فحسب، لكن الواقع المعاش الآن يكشف لنا فلسفة هذه الخطوط والمنحنيات والنتوءات التى نراها فى الخرائط.
>>>
لقد كان هذا التقسيم يعكس وقتها حقيقة الأهداف وطبيعة الخطط وأدوات المخطط، حيث تزامنت تلك الاتفاقية مع وعد بلفور، وهما حدثان تاريخيان مرتبطان بتشكيل الشرق الأوسط الحالي، حيث أدت اتفاقية سايكس-بيكو إلى تقسيم أراضى الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا، بينما وعد بلفور، وهو تصريح بريطاني، أعلن عن دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، وتم تقسيم المنطقة إلى دويلات ذات حدود مصطنعة، مما مهد الطريق لتنفيذ وعد بلفور وتأسيس دولة إسرائيل.
>>>
إذن نحن كنا امام تشكيل مقصود للشرق الأوسط يسمح بزراعة ذلك العضو الغريب «الكيان» فى جسد الأمة العربية الوليدة والتى تم تقسيمها بما يخدم عملية الزراعة الملعونة تلك، لقد خطط الاوروبيون – خاصة بريطانيا – لحل المسالة اليهودية فى اوروبا جذريا بإخراجهم من اوربا وتجميعهم فى ارض فلسطين وإنشاء دولتهم ودعمها عسكريا واقتصاديا حتى تصبح وكيلهم فى المنطقة والذى يحمى مصالحهم، اليوم وبعد مرور كل هذه العقود، ومع كل هذه التفاصيل التى تجرى أمامنا ونقوم بتحليلها على أساس نظرية المصادفة والنتائج والمسببات.
>>>
لكن فيما يبدو- ومن قراءة سجلات التاريخ بعناية – ان ما يجرى كله هو امر مخطط بعناية لاصدار الطبعة الجديدة من سايكس بيكو وتنفيذ الجزء الثانى من وعد بلفور !، هذه المحطات جاءت فى ظل معطيات وواقع جديد، امريكا وريثة بريطانيا فى ادارة المسألة اليهودية ترى ان اسرائيل وصلت سن الرشد ويجب ان تتوسع على حساب جيرانها بعد السماح لها بالتهام الضفة الغربية وتهجير أهلها منها، امريكا ترى ان اسرائيل بلغت سن الرشد لكنها مازالت تمارس المراهقة التى تحتاج إلى تدخل ولى الأمر بين وقت وآخر، لكن فى النهاية يمكن الاعتماد عليها.
>>>
– هكذا ترى الادارة الأمريكية – كشرطيّ للمنطقة، وهذا الطرح تفسره كل الاحداث التى وقعت فى المنطقة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، فكل ما جرى يبدو انه كان مخططاً، بدءا من استدراج حماس فى السابع من اكتوبر وما جرى بعدها لحركة حماس ولقطاع غزة مرورا بما جرى لحزب الله فى لبنان ثم الاحداث السورية التى انتهت بوصول قائد جبهة النصرة إلى حكم سوريا والانخراط فى مفاوضات مباشرة مع الاسرائيليين ستنتهى بتطبيع كامل وربما تكون هضبة الجولان ثمنا وثمرة لهذه المفاوضات، وانتهى المشهد بحرب الأثنى عشرة يوما بين ايران واسرائيل والعودة مجددا لوضع اللمسات الأخيرة على قطاع غزة وفقا للرؤية الأمريكية.
>>>
اليوم نستمع ونتابع احاديث مبعثرة عن اعادة تشكيل المنطقة، لكن الخطورة فى التصريحات المتكررة لنتنياهو حول الشرق الأوسط الجديد، الخلاصة وحتى لا نقع فى فخ التفاصيل، علينا ان نركز أبصارنا تجاه سايكس بيكو- وعد بلفور، والتشكيل الأول للشرق الأوسط، ثم نغمضها قليلا وندع شريط التاريخ يمر على محطات مفصلية ساهمت فى تثبيت اركان دولة الكيان، ثم نفتح عيوننا مجددا لنقرأ التشكيل الثانى للشرق الأوسط او ما يمكن ان نطلق عليه «الطبعة الجديدة من سايكس بيكو ويمكن ان نسميها «اتفاقيات ووعود «نتنياهو- ترامب».
لكن ومع وضوح كل تلك المخططات، اؤكد انه لن تنجح طالما هناك من
من يقف لها بالمرصاد، لكن هل يمكن ان تتخلى اسرائيل ومن يدعمها عن تلك الأحلام التوسعية، أقول إن أحلامهم لا تسقط بالتقادم، وإن أحلامنا لا تموت بالتقادم أيضا.