التقيت صديقي الفنان الكبير في مناسبة: جميلة جمعتنا بأصدقاء العمر وكانت أمسية رائعة راح كل منا يسترجع ذكرياته المرحة والعجيبة أيضاً، تذكرنا سوياً كيف كان يلتقط كوب الشاي الساخن من شرقة الطابق الثالث وهو واقف في الشارع ليشربه في وقفته مع أصحابه، وضحكنا كثيراً عندما تذكرنا موقفه مع أحد رؤساء الجمهورية عندما ظنه الرئيس بوجهه المشرب بالجمرة وشعره الأحمر الأشعث وملابسه الأنيقة سفيراً أجنبياً أثناء احتفالية، وفي حالة صديقي الفنان فإن مواقفه تبدو غريبة لكن طريفة وهنا لا يكون الاستثناء خطراً بل لطيفاً يمكن التندر عليه ويلح على ذهني سؤال ما معنى القاعدة أو المألوف أو المعتاد وما هي طبيعة الاستثناء؟
تقوم فلسفة القاعدة والاستثناء على فكرة أن لكل قاعدة استثناءات وأن هذه الاستثناءات لا تلغي القاعدة، بل تؤكدها وتنبه إليها فالقاعدة هي طبيعة أو نمط عام والاستثناء هو حالة خاصة تخرج عن تلك الطبيعة لكن لا تعني بطلان القاعدة. وهناك أمثلة في حياتنا اليومية قد نعتاد ما يحدث من استثناء باعتباره أمراً عادياً ومقبولاً ومعقولاً، فبعض اللقطات والملابس الغرائبية التي يظهر بها بعض نجوم ونجمات الوسط الفني تثير اندهاشنا في البداية لكن مع تكرارها نعتادها وقد يقبل بعض الشباب على تقليدها فتصير أمراً عادياً نتقبله دون استنكار، ويظل الأخطر دائماً هو أن تتحول المواقف الاستثنائية من ممارسات فاسدة أو ظالمة إلى أمور عادية من وجهة نظرنا دون إدراك أو الوعي بأسباب حدوثها على هذا النحو ومن ثم العمل على حصرها في نطاق الاستثناء.
يطرح الفيلسوف الإيطالي (جورجيو أجامبين) في كتابة “حالة الاستثناء” والذي يتحول فيه الاستثناء إلى أن يكون هو ذاته القاعدة ، ومن هذه الزاوية يكون “الإنسان المستباح” وهو العنوان الرئيسي للمجلد الضخم الذي ضم تسعة كتب لـ(أجامبين) ويكون الإنسان مستباحاً عندما يتم تطبيق القاعدة بوصفها استثناءً وتطبيق الاستثناء بوصفه القاعدة ذاتها وعندما نتحدث عن غياب العقلانية في مجتمع معين لا تحكمه القوانين أو اللوائح المحددة والواضحة، فإننا في حالة من الاستباحة لأفراد المجتمع، لكن هذه الاستباحة حاضرة دائماً في ظل انعدام الفاعلية الذاتية لأفراد المجتمع وهنا يجب الإشارة إلى ضرورة الوعي الذاتي بألا تتحول حالة الاستثناء إلى قاعدة، إننا لا نفكر في لا معقولية ما يحدث ونمر عليه مرور الكرام، كما لو كان معقولاً ومعتاداً ومن ثم نتقبله وعلى الصعيد العالمي صرنا نتعامل مع الأحداث الدامية والمشاهد المروعة والسلوكيات المجنونة ونحن في حالة من الاعتياد السلمي والسلبي دون أن يروعنا ما يجري أو حتى يدفعنا للتفكير في أسبابه وإدراك أبعاده.
وفي ظل إشكالية القاعدة والاستثناء بالنسبة للمفهوم الإنساني وظروفه وأحواله وزمانه يظل الشيء الوحيد المعبر عن الوجود الإنساني هو علاقة الإنسان بذاته وهي ما يعبر عنها المبدع “صلاح جاهين” بمعنى رائع حين يقول “بالاختصار بحبني ما أنا أصلى ليا زمان معايا بنتكسر ونتبني ونفتقر ونتغني وننفرد وننحني”.