كل الغايات يمكن للمرء إدراكها بسهولة إلا غاية إرضاء الناس، يقول الرسول «صلى الله عليه وسلم»: «مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ».. ويقول الشافعي: «رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلحك فالزمه فإنه لا سبيل إلى رضاهم»، ويقول أحدهم: «لا تبحث عن الرضا فى عيون الناس، لكن ابحث عنه فى نظر الله إليك وأنت على الطاعة، ولا تنشغل بما يقوله الناس عنك، بل ما ستكتبه الملائكة عنك.. تفز ورب الكعبة».
>>>
وفى قصيدة رائعة كتب الشافعى يقول ما يجب أن ننتبه إليه جميعاً:
«ضحكتُ، فقالوا ألا تحتشم؟ بكيتُ، فقالوا ألا تبتسم؟ بسمتُ، فقالوا يُرائى بها.. عبستُ فقالوا بدا ما كتم. صمتُّ، فقالوا كليل اللسان. نطقتُ، فقالوا كثير الكلم. حلمتُ، فقالوا صنيع الجبان، ولو كان مقتدراً لانتقم. بَسِلتُ فقالوا لطَيشٍ به وما كان مجترئاً لو حكم. يقولون شذ إن قلتُ لا، وإمّعة حين وافقتهم. فأيقنتُ أنى مهما أرد رضى الناس لابدّ من أن أُذَم!»، وذكر العقاد فى كتابه «جحا الضاحك المضحك» قصة جحا وابنه وحماره وهى قمة الفلسفة الإنسانية.. يقول العقاد:
«كان لجحا ولد يعصيه كلما أمره بعمل، ويقول لأبيه: وماذا يقول الناس عنا إن عملناه؟!».
وأراد جحا أن يلقنه درسًا ينفعه، ويعلمه أن رضا الناس غاية لا تدرك، فركب حماره وأمر ابنه أن يتبعه، ولم يمض غير خطوات حتى مر ببعض النسوة فشتمنه وقلن له: أيها الرجل، أما فى قلبك رحمة؟! تركب أنت وتدع الصبى الضعيف يعدو وراءك؟!
فنزل جحا عن الحمار، وأمر ابنه بركوبه، ومضى مسافة غير بعيدة، ثم مر بجماعة من الشيوخ يستشرقون، فدق أحدهم كفًّا بكف، ولفتهم إلى هذا الرجل الأحمق وهو يقول ويعيد:
لمثل هذا فسد الأبناء، وتعلموا عقوق الآباء.. أيها الرجل، تمشى وأنت شيخ، وتدع الدابة لهذا الولد، وتطمع بعد ذلك أن تعلمه الأدب والحياء؟
قال جحا لولده: أسمعت؟ تعال إذن نركب الحمار معًا.
وما هى إلا لحظة، حتى مر بهما جماعة من أصدقاء الحيوان صاحوا بهما: أما تتقيان الله فى هذا الحيوان الهزيل؟ أتركبانه معًا، وكلٌّ منكما يزن من اللحم والشحم ما يزيد على وزن الحمار؟!
قال جحا لولده: الآن نمشى معًا ونرسل الحمار أمامنا، لنأمن سوء القالة من النساء والشيوخ وأصدقاء الحيوان.
وما هى إلا لحظة أخرى حتى مر بهما طائفة من «أولاد البلد» الخبثاء، فجعلوا يعبثون بهما ويقولون لهما:
والله ما يحق لهذا الحمار إلا أن يركبكما أو تحملاه وتريحاه من وعثاء الطريق!
فمال جحا إلى شجرة، وأخذ منها فرعًا متينًا وربط فيه الحمار، وحمل الفرع من طرف ووضع الطرف الآخر على كتف ولده، فإذا البلد كله وراء هذا الركب العجيب، وإذا بالشرطى يفض هذا الزحام ليسوقهما إلى البيمارستان.
قال جحا لابنه فى طريقهما مع الشرطي: هذه يا بنى عاقبة من يستمع إلى القال والقيل، ولا يعمل عملاً إلا ابتغى به مرضاة الناس!».
>>>
من جماع ما سبب ذكره نرى أن ننتبه جميعاً لهذه الفخاخ التى ننصبها بأيدينا فى طريقنا وتنفجر فى وجوهنا، فلا تجعل إرضاء الناس غايتك فى هذه الحياة، دع أفكارك ومبادئك وما تراه صحيحاً هو المحرك الوحيد لاتجاهاتك وتوجهاتك وقراراتك، فلا تراقب منسوب رضا الناس وتجعله هو البوصلة التى تهتدى بها، عليك أن تصنع بوصلتك على مقاييس نفسك وما تحمله من معتقدات، وهنا لابد وأن نميز بين المصلحين والسياسيين، فالرجل المصلح لا ينظر إلا للإصلاح والصواب والحق والعدل والمساواة.
>>>
أما السياسى فقد ينظر إلى إرضاء الناس على أنه غاية المراد من رب العباد حتى لو بتخديرهم بقرارات وهمية هلامية تدمر مستقبلهم، هنا أتذكر قول من سبقونا:
«يا بخت من بكانى وبكى عليا ولا ضحكنى وضحك الناس عليا»