أكد محمد سفيان براح، سفير الجزائر لدى مصر ومندوبها الدائم لدى الجامعة العربية، أن ذكرى الخامس من يوليو هذا العام تحمل عبق الذكرى الثالثة والستين لعيدي الاستقلال والشباب في الجزائر، تحت شعار يختصر مسيرة وطن وصمود شعب: “جزائرنا… إرث الشهداء ومجد الأوفياء”.
وأشار السفير إلى أن هذا الشعار يحمل في طياته دلالات عميقة؛ إذ يذكرنا بأن الحرية لم تُهدَ إلينا، بل افتُديت بدماء خيرة أبناء وبنات الجزائر. وأن الوفاء لرسالتهم لا يُقاس بالأقوال، بل بما نبنيه من مؤسسات، وما نحصنه من وحدة وطنية، وما نغرسه في أجيالنا من اعتزاز بالانتماء وتطلع إلى مستقبل أفضل.
مصر والجزائر: أخوّة نضالية راسخة
إذا كانت الثورة الجزائرية تُسجل في صفحات التاريخ إحدى أنبل ملاحم التحرر في العصر الحديث، فإنها لا تغفل عن المواقف الأصيلة التي أسندتها، وفي طليعتها موقف جمهورية مصر العربية الشقيقة التي وقفت إلى جانب الشعب الجزائري في أحلك لحظات المحنة، يوم تردد الآخرون وتخاذل الكثير.
لقد آمنت مصر بعدالة القضية الجزائرية منذ اللحظة الأولى، فاحتضنت قادة الثورة ومؤسساتها، ووفرت الدعم العسكري حين عز السلاح، والإسناد الإعلامي حين كان الصوت سلاح المقهورين. وكانت إذاعة “صوت العرب” من القاهرة بمنزلة رصاص الحرية في معركة الكرامة، تواكب الثورة وتُلهب مشاعر الأحرار، وتفضح جرائم الاستعمار أمام العالم. وهكذا لم تكن مصر متعاطفة أو متضامنة فحسب، بل كانت في قلب المعركة ترى في انتصار الجزائر امتدادًا لانتصارها وفي استقلالها دفعة قوية لاسترداد كرامة الأمة العربية بأسرها.
وحدة الصف في مواجهة التحديات الراهنة
وأضاف السفير أنه من رحم تلك الأخوة النضالية الصادقة نشأت روابط تاريخية لم تزدها السنوات إلا صلابة ورسوخًا. وها هي هذه الأواصر تتجدد وتتعزز كلما واجهت أمتنا العربية تحديًا جديدًا، وتزداد تماسكًا في كل استحقاق إقليمي أو دولي يستدعي تعميق التنسيق وتكثيف التشاور وتوحيد الصفوف في وجه محاولات المساس بسيادة الدول وحقوق شعوبها ومقدراتها.
وأشار إلى أن احتفال الجزائر هذا العام بعيد استقلالها الـ 63 يأتي على وقع جراح عربية يعجز أي ضمير حي عن غض الطرف عنها، وفي مقدمتها ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان همجي متواصل بلغ حد الإبادة الجماعية، في انتهاك صارخ لكل الأعراف والمواثيق الدولية.
إن المأساة التي تعصف اليوم بغزة ليست مجرد كارثة إنسانية، بل اختبار قاسٍ لضمير العالم ولمصداقية منظومة القانون الدولي وحقوق الإنسان؛ فقد علمنا التاريخ أن الوضع في فلسطين ليس مسألة حدود أو تفاوض فحسب، بل امتحان أخلاقي لحضارتنا وإنسانيتنا جمعاء.
تلاقي الرؤى والمواقف: حماية الحقوق وصياغة المستقبل
في هذا السياق، لا يسعنا إلا أن ننوّه مجددًا بالدور المحوري الذي تضطلع به مصر، من خلال جهدها الدبلوماسي والإنساني المتواصل، في الدفاع عن الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ورفضها القاطع لمحاولات قوات الاحتلال فرض وقائع تستبيح الحق والتاريخ معًا، بغية تصفية القضية الفلسطينية عبر التجويع والترهيب والتهجير.
وهذا التفاني وروح المسؤولية اللذان تنهض بهما مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي هما نفسُهما ما يُحرك الدبلوماسية الجزائرية، بتوجيهات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في مختلف المحافل الإقليمية والدولية، ولا سيما في مجلس الأمن، حيث تواصل الجزائر الدفاع بشجاعة ووضوح عن القضايا العادلة، وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ويُعد هذا التلاقي في المواقف والرؤى بين البلدين الشقيقين تأكيدًا على أن تنسيق الجهود بين الجزائر ومصر ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة أخلاقية واستراتيجية، خاصة في ظل المحاولات المتكررة لقوى دولية وإقليمية لفرض معادلات تكرس واقعًا من العنف وتُغذي دوائر عدم الاستقرار في المنطقة.
وبفضل هذا الوعي المبكر وقراءتهما السليمة للتحولات المتسارعة في محيطنا العربي، أدركت الجزائر ومصر خطورة المخططات التي تستهدف تفكيك المنطقة العربية وإعادة رسمها على أسس واهية ووظيفية. فزرع الفتن، وضرب الوحدة الوطنية، وتأجيج النزاعات العرقية والطائفية، ومحاولة النيل من الرموز الجامعة، ليست إلا وجوهًا متجددة لاستراتيجيات قديمة ترمي إلى إضعاف الدول العربية ومنعها من التحول إلى كتلة تنموية متماسكة قادرة على حماية مصالحها وصياغة مستقبلها.
لقد أكسبت تجربة مقاومة الاستعمار، وما تلاها من رهانات بناء الدولة الوطنية، كلاً من الجزائر ومصر مناعة تاريخية وعزمًا راسخًا على تحصين الجبهة الداخلية باعتبارها خط الدفاع الأول في مواجهة محاولات الاختراق والتدخلات الخارجية ومساعي الهيمنة على القرار الوطني.
وفي هذا السياق، يُعد الاستثمار في الإنسان، وترسيخ ثقافة المواطنة، وبناء مؤسسات قوية وفعالة، وإرساء اقتصاد وطني قائم على المعرفة والابتكار من أبرز الأولويات التي تتقاطع فيها رؤى البلدين؛ فهي أدوات استراتيجية تعتمدها الجزائر ومصر عن وعي عميق وإرادة سياسية ثابتة لمجابهة التحديات الراهنة ولتأكيد حضورهما الفاعل في عالم لا يحترم إلا الأمم القوية والمجتمعات المتماسكة.
حفظ الله الجزائر ومصر، وسدد خطى شعبيهما الشقيقين نحو مزيد من الاستقرار والتقدم، وألهم شبابهما سبل البناء والوفاء، حتى تبقى تضحيات الأمس وقودًا وشعلة تنير درب الغد، وبوصلة ترشد الأوفياء لصُنع مستقبل أفضل.