فى زمنٍ تُقاس فيه القيم بالسرعة، وتُحكم فيه العوالم من خلف الشاشات، ولدت لغة جديدة… لغة لا تنطق بالحروف بل بالأكواد، ولا تُقرأ بالأعين فقط، بل تُحس بالروح
إنها البرمجة… ذلك الشعر الخفى الذى ينسج أنفاس هذا العصر الرقمى لم تعد القصائد تُكتب بالحبر، بل بالأوامر. ولم تعد الإيقاعات تعزف على العود، بل على لوحات المفاتيح. فى كل سطر برمجي، نبض، وفى كل خوارزمية، إحساس، حتى لو لم يدركه الكثيرون. فالمبرمج حين يجلس أمام شاشته، لا يختلف كثيرًا عن الشاعر الذى يحدّق فى السماء باحثًا عن إلهامه.
لكن هذا الشعر الجديد لا يسكن الدواوين، بل يسكن التطبيقات، والمواقع، والأنظمة الذكية. نستخدمه حين نطلب طعامًا، وحين نحجز طائرة، بل وحتى حين نحب أو نحزن عبر رسالة إلكترونية.
البرمجة ليست مجرد تعليمات تُلقى على آلة، بل هى فن هندسى ينسج الواقع بأدوات من خيال. هى الجسر بين الحلم والتنفيذ، بين ما نتمنى وما نعيشه. المبرمجون هم شعراء هذا العصر، يكتبون للعالم لغة يفهمها العقل وتُدهش القلب.
وفى ظل الطفرة التكنولوجية، ظهرت البرمجة بالذكاء الاصطناعي، وكأن الآلة بدأت تكتب قصيدة البرمجة أصبح الكود محاورًا، والمبرمج مؤلفًا يتشارك الإبداع مع خيال إلكترونى. لم يعد الإنسان وحده من يكتب، يبقى السؤال: من يعلّم هذه القصائد أن تكون عادلة؟ من يحرص أن لا يكون هذا الشعر الرقمى خنجرًا فى خاصرة الإنسانية؟
البرمجة، كالشعر، يمكن أن ترفع حضارة أو تدمرها إنها مسئولية، وأمل، ولغة العصر التى لا تُنطق… بل تعاش فلنحسن كتابة هذا الشعر.
وكلما تطورت هذه اللغة الصامتة، ازدادت تشابكًا وتعقيدًا، كما تتشابك مشاعر الشاعر حين تغزوه لحظة إلهام مباغتة. البرمجة لم تعد مجرد أداة للابتكار، بل أصبحت مرآة للروح البشرية، تعكس دواخلنا، آمالنا، ومخاوفنا. كيف لا، وهى التى تصمم العوالم الافتراضية التى نلجأ إليها هربًا من صخب الواقع؟
فى عصر الواقع المعزز والميتافيرس، صارت البرمجة حبرًا جديدًا نعيد به تشكيل الكون كما نشاء. نبنى مدنًا من الخيال، نعيد تشكيل الذكريات، ونصوغ عوالم بديلة لا تقل واقعية عن هذا العالم المادى. وكل سطر برمجى نكتبه، كأنه حجر يوضع فى بناء عصر جديد، أكثر سيولة، وأكثر تحررًا من القيود.
وهنا تتجلى خطورة هذا «الشعر الرقمي»، فهو. يمكنه أن يُسخّر لتضليل العقول كما يمكنه أن ينيرها إن البرمجة، بكل جمالها وتعقيدها، تُنادى كل من يحلم، كل من يرى فى الشاشة بياض الورقة التى تنتظر قصيدة جديدة… تنتظر أن تُكتب بشغف، وتُعاش بضمير بين أقواسها وأوامرها.