لا ضرورة ولا جدوى فى رأيى من هذا السجال الدائر بين الرئيس الأمريكى ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلى من ناحية، والمرشد الأعلى الإيرانى خامنئى من ناحية أخري، حول من انتصر على من، ومن حقق أهداف عمليته العسكرية ضد الآخر، سواء كانت عدواناً صريحاً، أو رداً على عدوان، فى إطار الدفاع عن النفس.
الثلاثة تركيباتهم الشخصية وخلفياتهم السياسية معروفة للجميع فى العالم، ويتشابهون فى بعض عناصر هذه التركيبات، ولدى الثلاثة مشكلات فى التعامل مع المجتمع الدولي، ومشكلات محلية داخل دولهم، تجعل كلاً منهم يختصر دولته فى شخصه، ويسعى لتأكيد زعامته فى مواجهة كل الظروف.
ولذلك لم نسمع منهم، بعد حرب الاثنى عشر يوماً التى خاضوها، إلا أنهم جميعاً انتصروا، بل ولم نشهد منهم، سوى احتفال كل منهم بما حققه من نصر.
نتنياهو يؤكد أن عدوانه على إيران، بما حققه من دمار فى المنشآت العسكرية والمدنية والنووية واغتيال لقيادات إيران وعلمائها النووين وسيطرة سلاحه الجوى على السماوات الإيرانية، قد عطل مشروعها النووي، وأضعف قدراتها العسكرية.
الرئيس الأمريكى ترامب أكد، من جانبه، أن ضربته العسكرية لإيران وهى تستعد لجولة جديدة من المفاوضات معه حول برنامجها النووي، قد قضت على حلم النظام النووى فى مواصلة برنامجه حتى امتلاك القنبلة الذرية، وأن الضربة الإيرانية لقاعدة العديد الأمريكية فى قطر لم تحقق شيئاً، لأن القاعدة كانت خالية بعد سحب القوات والمعدات الأمريكية منها قبل الضربة.
المرشد الأعلى الإيراني، بدوره، قلل من تأثير العدوانين الإسرائيلى والأمريكى على بلاده وعلى برنامجها النووي، وأنها قادرة على استئناف العمل فيه بعد إزالة ما لحق به من أضرار، بينما أشاد برد بلاده القاسى والحاسم على الدولتين، وما أحدثه من دمار وخسائر فى إسرائيل بالذات مما جعلها تستنجد بالرئيس الأمريكى للتدخل العسكرى لإنقاذها.
لقد أراح الثلاثة شعوبهم، أو تصوروا ذلك، بما قدمه كل منهم لشعبه من خليط من الوهم والحقيقة، حيث لم يتم حتى الآن، بل لم يبدأ أصلاً أى تقييم حقيقى وموضوعى من جهة دولية محايدة لتأثير هذه الضربات على المدى القصير أو الطويل.
فبينما علقت إيران تعاونها مع هيئة الطاقة الذرية العالمية رسمياً، وهى الجهة الدولية المنوط بها إجراء مثل هذا التقييم، فإن تقارير استخباراتية وإعلامية خرجت من داخل الولايات المتحدة وإسرائيل تكذب أو تشكك فى صحة ما أعلنه كل من الرئيس الأمريكى ورئيس وزراء إسرائيل عن تأثير ضرباتهما لإيران وعن تحقيق أهدافها.
لكن، ما لم يتحسَّب له الزعماء الثلاثة، أنهم، بما أعلنوه واحتفلوا به من نصر، قد أحبطوا أى مسعى محتمل من جانب أى منهم، فى أى وقت قادم للتفكير فى مقاضاة الطرف الآخر أمام القضاء الدولى أو المحلى على عدوانه، والمطالبة بأى تعويضات عما لحق ببلاده ـ جراء هذا العدوان ـ من خسائر.
فكل من الطرفين إيران من جانب، وأمريكا وإسرائيل من جانب آخر أعلن أنه انتصر، وكذّب الطرف الآخر، وسيؤخذ كل منهم بما أعلنه على لسانه، وفق قاعدة: الاعتراف سيد الأدلة.
رغم شبق الرئيس الأمريكى لجنى الأموال، وحاجة كل من إيران وإسرائيل ـ حقيقة ـ لمئات الملايين من الدولارات، لإعادة بناء ما دمرته الضربات المتبادلة بينهما.
وستبقى الأسئلة فى هذه الحرب معلقة بلا إجابات لأجل غير معروف، سواء عن حجم الدمار الحقيقي، أو عن مصير اليورانيوم المخصب لدى إيران، وأجهزة الطرد المركزي، وهل أصابت الضربات الأمريكية لـ «فوردو» الإيرانية أعماق المحطة أم كانت سطحية.. إلى آخره.
وستبقى أيضاً الأسئلة الخاصة بما جرى فى إسرائيل معلقة، وإن كان هناك فى الحالتين من سيتتبعون خطوات الدولتين للتوصل إلى إجابات، لأن حجم الخسائر هنا أو هناك سيحتاج إلى تمويل خارجى لإصلاحه، سواء كان التمويل مادياً أو فنياً وتكنولوجياً.
لكن، ليست هذه الأسئلة هى الأهم فيما أسفرت عنه هذه الحرب التى لم تضع أوزارها رسمياً بعد. فهى متوقفة بقرار وقف إطلاق نار هش، من جانب دولتين ـ أمريكا وإسرائيل ـ لديهما أكبر سجل دولى فى عدم احترام مثل هذه القرارات، حتى تلك التى صدرت من مجلس الأمن الدولي، أعلى سلطة أممية فى فض النزاعات.
فالبعض يرى أن هذه الحرب القصيرة قد فتحت الباب على مصراعيه أمام الولايات المتحدة وإسرائيل لاستكمال مخطط شرق أوسط جديد تكون الكلمة العليا، بل والوحيدة فيه للدولتين، بعد تقليم مخالب إيران فى المنطقة والقضاء على برنامجها النووي، ودعوة بقية الدول العربية التى لم تنضم للاتفاقيات الإبراهيمية، إلى الإسراع للانضمام والتطبيع الطوعى المجانى مع إسرائيل.
وهو شرق أوسط ـ إن حدث ـ لن تكون فيه حاجة لجامعة دول عربية، ولا لبقايا أمن قومى عربى وإنما ستتولى الدولتان صياغة احتياجاته من جديد على ضوء مصلحتهما المشتركة.
لكن بعضاً آخر يرى العكس، وهو أن هذه الحرب يمكن أن تعطل هذا المخطط بما أسفرت عنه من حقيقتين: هشاشة القوة العسكرية الإسرائيلية المنفردة، ما لم تدركها الولايات المتحدة بالتدخل إلى جانبها، وصلابة القوة الإيرانية الذاتية غير المدعومة عسكرياً من أى دولة كبري، وهو ما يصحح بعض الخلل فى التوازن المفقود فى المنطقة.
طلب الرئيس ترامب من إيران أن تستسلم، ولم تستسلم، سواء قبل أو بعد أن يوجه إليها ضربته.. وتوقع سقوط النظام فيها ولم يسقط.. بينما احتاج مع نتنياهو، ليس فقط التدخل لإنقاذ إسرائيل نفسها، بل التدخل لـ «تعويمه» شخصياً فى مواجهة أزماته الداخلية، وإلغاء محاكمته من جانب قضاء بلاده فى إجراء غير مسبوق ليثبت أن إسرائيل ليست دولة مكتملة، بل ولاية أمريكية.
نحن أمام مباراة انتصر فيها الفريقان، وانهزم المتفرجون وهم الشعوب.