كم خسرت مصر من جراء الإهمال..؟!
هذا السؤال طرحته قبل سنوات فى هذا المكان ورجوت لو أن جهة علمية بحثية أجرت إحصاء دقيقًا لما خسرته مصر جراء الإهمال البشرى الذى فاق كل تصور خلال عقود ماضية.. لنرى كيف كان الإهمال ولا يزال عدواناً غاشماً على الدولة والمواطن والمستقبل..ولندرك كيف أن الإهمال والفساد فاقا فى خطورتهما وتبعاتهما ضراوة الإرهاب.. وثلاثتهم عدو للتقدم والتنمية اللذين يصبح الحديث عنهما فى ظل تعافى ثالوث الخطر وإمساكه بتلابيب المصريين عبثاً لا طائل منه.
ما حدث أخيرًا فى محافظة المنوفية من كارثة إنسانية فقدت بسببها قرية كفر السنابسة تسع عشرة زهرة من بناتها فى حادث مرورى مأساوى على الطريق الإقليمى خرجن صباحًا يحملن آمالًا بسيطة ويسعين خلف لقمة العيش لتتحول رحلتهن إلى مأساة لا توصف يعيد طرح السؤال من جديد: متى يتوقف الإهمال..؟!
الحادث لم يكن مجرد تصادم مركبتين بل كشف عن عمق التراخى وغياب الضمير لدى البعض سواء من تسبب فيه برعونته أو من غضّ الطرف عن حالة الطريق الذى تحول إلى مصيدة موت منذ سنوات..!!
تكشفت الحقائق سريعًا وتبين أن سائق الشاحنة المتسببة فى الحادث كان تحت تأثير المخدرات ولم يكن لديه رخصة، وهو ما يدق ناقوس الخطر حول حالة كثير من سائقى النقل الثقيل الذين يُفترض أنهم مسئولون عن أرواح العشرات على الطرق اليومية وازداد المشهد قتامة حين وُصف الطريق الإقليمى بأنه طريق الموت بالنظر إلى تكرار الحوادث عليه وعدم وجود إشارات مرورية كافية أو فواصل آمنة مما يضاعف من احتمالية وقوع الكوارث كلما غابت صيانته أو جرى تجاهل ضحاياه.
المسئولية المباشرة تقع على عاتق القيادة المتهورة حتمًا لكنها لا تقف عند حدودها الضيقة بل تتخطاها إلى جهات تتحمل ضمنيًّا جانبًا كبيرًا من الإهمال فى تطوير الطريق وتأمينه بينما تغيب الرقابة الفعلية على سائقين كثيرين ليسوا برءاء من تعاطى المخدرات، كما تغيب بالدرجة ذاتها الرقابة على عمالة الأطفال وخصوصًا العاملات الموسميات اللاتى ظهر فجأة أنهن بلا بيئة عمل آمنة تحقق لهن شروط التوظيف أو وسائل التنقل الآمنة ما يعكس هشاشة منظومة الحماية الاجتماعية بالكامل.
والحق أن مصر شهدت خلال العقد الأخير طفرة ملحوظة فى تطوير شبكة الطرق، انعكست على ترتيبها العالمى فى مؤشر جودة الطرق، حيث قفزت من المركز 118 عام 2014 إلى المركز 18 عالميًا فى عام 2024، متجاوزة بذلك دولًا كبرى مثل الولايات المتحدة وأستراليا. هذا التحسن جاء نتيجة تنفيذ المشروع القومى للطرق، الذى شمل إنشاء 7000 كيلو متر من الطرق الجديدة، وتطوير 8400 كيلو متر من الطرق القائمة، بتكلفة إجمالية تجاوزت 265 مليار جنيه.
إن ما حدث لبنات كفر السنابسة يجب ألا يمر كحادث عابر بل يستدعى وقفة وطنية جادة تتجسد فى وضع قواعد صارمة لفحص سائقى النقل دورياً وتغليظ عقوبات من يثبت تعاطيه للمخدرات إلى جانب إعادة تأهيل الطرق الإقليمية وتزويدها بالكاميرات والحواجز الآمنة والتوسع فى حظر سير الشاحنات فى أوقات الذروة والأهم من ذلك إنشاء مظلة تأمينية شاملة للعاملات فى القطاع غير الرسمى وتوفير وسائل نقل تخضع للرقابة.
هذه الفاجعة ليست حادث طريق بل صرخة ألم فى وجه الإهمال ورسالة موجهة إلى كل مسئول ما زال يظن أن الأرواح تُقاس بالأرقام أو أن الصمت كافٍ لامتصاص الحزن فمن خرجت صباحًا تحمل أحلامها لن تعود وعلى الدولة أن ترد الاعتبار بقرارات لا تقبل التأجيل لأن حياة البشر ليست هامشًا فى جداول الإنفاق ولا رقمًا فى ملفات المرور.
ورغم مآخذ البعض على أداء بعض الحكومات المتعاقبة منذ عقود فإنه لا أحد ينكر أنها حققت فى عهد الرئيس السيسى إنجازات ملموسة فى ملفات مهمة عديدة.. فها هو الأمن قد عاد بدرجة يشعر بها المواطن الذى بات آمناً فى سربه مطمئناً إلى أن عين الأمن ساهرة تحميه وأن للوطن درعاً وسيفاً يذود عن حدوده ويدافع عن حياته ووجوده.. كما اختفت طوابير الخبز وضحاياه ونقص إمدادات الطاقة.. وحققت الكهرباء فائضاً بعد انقطاع للتيار دام سنين عديدة وتجاوزت مصر محنة الظلام الدامس الذى كان يتهددها ليل نهار.. ناهيك عما تحقق من إنجازات فى قطاع الإسكان لاسيما الاجتماعى منه وغيره، وعودة الدور المصرى القوى فى محيطه الدولى والإقليمى بفضل جهود الرئيس وجولاته الخارجية ويقظة قواتنا المسلحة التى لا تتوانى عن تعزيز وسائل الردع ومواطن القوة للدولة المصرية فى مواجهة مخاطر وتهديدات لم تعد خافية.
وإذا كانت الحكومة جادة فى مواجهة غول الفساد والإهمال وهى بالفعل جادة فى ذلك.. فهل تضع خطة فورية لصيانة الطرق، كل الطرق، وتوسيع مظلة الحماية لتمنع استغلال الأطفال فى أعمال بمقابل بخس وتوفر لهم الحماية والدعم.. مع استحداث حزمة تشريعات يمكنها ردع الإهمال والفساد للوقاية منهما ومنعهما قبل وقوعهما وتجفيف منابعهما.. أليست الوقاية خيراً من العلاج..؟!