من هذا المنطلق ومن هذه الرؤية.. استوقفنى «الإشارة»القوية البالغة العمق التى أكدت عليها مصر قبل أيام خلال الاحتفال بمرور ثمانين عاما على إنشاء منظمة الأمم المتحدة.. فقد أكدت مصر.. مصر الكنانة.. الثابتة.. الواثقة.. المحروسة دائما إن شاء الله سبحانه وتعالي.. ضرورة إصلاح منظومة الأمم المتحدة السائد ة «منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945».. هذه المنظومة والتى أثبتت الوقائع والأحداث والمعارك والحروب التى شهدها العالم على مدى ثمانين عاماً.. أنها منظومة تفتقر إلى تحقيق العدل والعدالة الحقيقية وأن السياسة الغالبة فيها هى السياسة التى تخدم أهداف «القوى المنتصر»… إن الإصلاح الحقيقى لمنظومة الأمم المتحدة «ومجلس الأمن» هو بالفعل البداية الحقيقية والجادة لتحقيق «حلم» نظام عالمى جديد أكثر عدلا واستقرارا وأمنا.. نظام أكثر بعدا من اندلاع «حرب عالمية ثالثة».
خلال كلمته التى ألقاها بمناسبة مرور ثمانين عاماً على إنشاء الأمم المتحدة أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى «دقة اللحظة» التى يمر بها العالم «الآن» وما يستلزمه ذلك من تطوير وإصلاح الأمم المتحدة.. قال الرئيس إن الاحتفال بمرور ثمانين عاماً على إنشاء الأمم المتحدة يأتى فى لحظة مفصلية تعاد فيها صياغة التوازنات الدولية وتفرض تحديات غير مسبوقة على المجتمع الدولي.. وأكد الرئيس فى كلمته على نقطة جوهرية عندما قال إن مصر تؤمن بأنه لابديل عن تطوير وإصلاح الأمم المتحدة لجعلها قادرة على مواكبة «هذه التحولات».. وأن مصر تؤكد أن أى تطوير أو إصلاح يجب أن يرسخ ضرورة احترام القانون الدولى وتجنب ازدواجية المعايير.
مصر أيضا فى كلمة لها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.. ألقاها مندوبها لدى المنظمة السفير أسامة عبدالخالق «قبل أيام».. مصر أكدت أهمية إصلاح «مجلس الأمن» بشكل شامل وإعادة النظر فى استخدام «الفيتو».. وأشارت مصر فى كلمتها إلى كيف أن إسرائيل ترتكب جرائمها المروعة ضد السعب الفلسطينى وهى متأكدة من أن «الفيتو» سيحميها من أى مساءلة أو عقاب!!
إن المطالبة أو الدعوة المصرية لإصلاح منظومة الأمم المتحدة «ومجلس الأمن» فى هذه «اللحظة الدقيقة» التى يمر بها العالم.. هذه الدعوة المصرية يمكن رؤية أهميتها وضرورتها بالذهاب إلى وثائق وذاكرة التاريخ.. متى وكيف نشأت الأمم المتحدة؟!.. لأن معرفة السياق أو الحدث الذى «ولدت منه» أو «على إثره» هذه المنظمة الدولية يكشف بوضوح مواطن الخلل والضعف «والعوار» التى تحول دائما دون الوصول إلى نظام عالمى يقوم بالفعل على دعائم حقيقية للأمن والسلام.
الأمم المتحدة.. يمكن القول انها هى أحد الأبناء الشرعيين للحرب العالمية الثانية.. تلك الحرب التى يصفها المؤرخون والعسكريون بأنها أكثر الحروب دموية فى التاريخ.. فالحرب العالمية الثانية «1939-1945» والتى دارت بين دول «الحلفاء».. بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى والصين ودول أخرى انضمت بعد ذلك.. ضد دول «المحور».. ألمانيا وإيطاليا واليابان.. هذه الحرب نتج عنها مقتل ما بين خمسين مليون إلى خمسة وثمانين مليون قتيل.. هذه الحرب كانت هى المرة الأولى التى ترى فيها «البشرية» استخدام السلاح النووى الفتاك والذى استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية ضد اليابان عندما أسقطت القنبلتين الشهيرتين على مدينتى هيروشيما وناجازاكي.. الحرب العالمية الثانية خلفت خرابا ودمارا مهولا فى أوروبا وعديد من دول العالم.. هذه الحرب العالمية الثانية البشعة هى التى أنجبت «الأمم المتحدة» وصاغت منطومة مجلس الأمن ومنحت حق الفيتو للخمس الكبار.. الخمس المنتصرين.. الولايات المتحدة.. الاتحاد السوفيتى «روسيا.». فرنسا.. بريطانيا.. والصين.. الأمم المتحدة ومجلس الأمن هما ترجمة فعلية واضحة للغة القوة.. لغة المنتصر.. وبها ومنها راحت هذه الدول «كل حسب طاقته وحاجته» يحمى مصالحه وينفذ سياساته على «المسرح الدولي» تحت مظلة «الأمم المتحدة».. بدأ ذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما ورثت «الأمم المتحدة» سابقتها «عصبة الأمم».. واستمر ذلك ومازال حتى الآن.
تروى وقائع وأحداث التاريخ أنه مع اقتراب نهاية الحرب.. وبعدما بدأ يلوح فى سماء المعارك قرب هزيمة ألمانيا ومحورها.. هنا أخذت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وبريطانيا تعقد اجتماعات تمهيدية لتقسيم مغانم الحرب فيما ببن دول الحلفاء.. وكان التركيز على كيفية تمزيق ألمانيا حتى لا تعود كقوة تهديد مرة أخري.. وتذكر الروايات التاريخية أن الولايات المتحدة كانت أكثر دول الخلفاء حرصا على إنشاء الأمم المتحدة ومن ثم مجلس الأمن.. وقد كان لها ذلك!!
بنفس المنطق وبنفس الروح وبنفس الهدف الذى دخلت به دول الحلفاء الحرب العالمية الثانية.. وحاربت وقتلت ودمرت وانتصرت.. بنفس «هذا كله» عملت هذه الدول على إنشاء الأمم المتحدة وتأسيس مجلس الأمن.. إنه منطق المنتصر.. منطق القوة!!.. نظام «الفيتو» على سبيل المثال يتنافى تماما مع أبسط قواعد العدالة الدولية.. لكنها القوة.. القوة وحدها هى التى تصوغ.. وتسوس.. وتنشئ.. إن عالم اليوم مازال يدار بمنطق الحرب العالمية الثانية.. أكثر الحروب دموية فى التاريخ.. لابد بالفعل من إصلاح «النظام الدولي» برمته إذا كانت هناك رغبة جادة فى تشكيل عالم جديد يسوده الأمن والسلم والعدل.
فى كتابه الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق.. يقول محمد حسنين هيكل : فى كل القضايا التى تخص الولايات المتحدة الأمريكية فإن واشنطن لا تقيد النجاح بشرط القانون.. بما فى ذلك القانون الدولي.. والمنطق فى هذه الحالة أيضا أيضا حاضر ملخصه أن قواعد القانون الدولى كما شاعت فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تم وضعها دون مشاركة الولايات المتحدة وفى غيبتها.. أى قبل أن تخرج الدولة الأمريكية إلى الدنيا الواسعة من وراء عزلة المحيطات.. وعليه فإن تلك المبادئ والقواعد غير ملزمة إلا فى حالة أن تعترف بها الولايات المتحدة تأسيسا على وجود مصلحة أمريكية على أنه وحتى مع الاعتراف العام يصبح تطبيق القانون انتقائيا.
ويضيف هيكل: إنه قد يصح الانتباه فى هذه الملابسات إلى أنه مما يزكى إسرائيل لهذه الدرجة الهائلة من القبول فى الولايات المتحدة الأمريكية أنها تظهر أمام معظم الناس هناك باعتبارها «مشروعا ناجحا» حقق هدفه بصرف النظر عن الوسائل «أعرافا وأخلاقا أو قانونا».. وبهذا المنطق – هكذا يقول هيكل – يمكن فهم موقف الإمبراطورية الأمريكية من قضايا الشرعية الدولية.. فالأمم المتحدة «ناجحة» إذا كانت فى حوزتها.. و»فاشلة» إذا كانت شرعيتها مسئولية مشتركة بين دول العالم.. كما أن الإجراءات لايصح لها أن تقع أسيرة تضارب تعدد فى المستويات أو تعقيد الصياغات.. وينتهى هيكل فى هذه «الملاحظة» إلى القول أنه وبهذه «العقلية العملية والواقعية» اختزلت الولايات المتحدة سلطة المنظمة الدولية فى مجلس الأمن وحده.. ثم اختزلت سلطة مجلس الأمن فى أعضائه الخمسة الدائمين.. ثم اختزلت سلطة الخمسة الدائمين فى نيابتها وحدها عن الجميع بواقع «القوة المفرطة».
ويشير محمد حسنين هيكل إلى واقعة شهيرة تتعلق بالحرب الأمريكية على العراق فيقول: إن الثقافة القانونية للولايات المتحدة «حرضتها» على خطف التقرير الذى قدمه العراق إلى مجلس الأمن عما يملكه – أو كان يملكه – من أسلحة الدمار الشامل.. ويضيف هيكل: كانت عملية خطف التقرير العراقى «فى ظروف طبيعية» جريمة ابتزاز وسرقة بالإكراه تحت أى قانون.. ويشرح هيكل عملية خطف التقرير قائلا: لقد قام السفير الأمريكى لدى الأمم المتحدة فى هذه العملية باصطحاب ثلاثة من ضباط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتوجه إلى مكتب رئيس مجلس الأمن «لشهر نوفمبر 2002» ثم طلب منه بناء على اتصال أجراه وزير الخارجية الأمريكى آنذاك «كولين باول» مع عاصمة بلاده أن يسلمه هنا والآن «أصل التقرير العراقى الموجه إلى مجلس الأمن.. ولم يكن لدى رئيس مجلس الأمن – والكلام مازال لهيكل-خيار غير أن يسلم التقرير إلى المندوب الأمريكى ومرافقيه لكى ينقلوه بأقصى سرعة إلى واشنطن.. وبذلك لم يسمح صناع القرار الأمريكى لبقية أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين إلا بنسخة واحدة من التقرير «منقحة».. وأما بقية أعضاء مجلس الأمن فلم يحصل أحد منهم إلا على ملخص معلومات «مصنوع يدويا»!.. وذكر محمد حسنين هيكل مثالا آخر من التاريخ حول علاقة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة ومجلس الأمن.. فقال إن الولايات المتحدة رفضت أى أحكام صادرة عن محكمة العدل الدولية فى «لاهاي» بما فى ذلك الحكم بإدانتها فى جريمة الحصار غير المشروع لموانئ «نيكاراجوا» أيام نظام الساندينستا!!
من ذلك كله وغيره.. يمكن القول إن إصلاح منطومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بات ضرورة ملحة للبشر والشجر والحجر على متن هذا «الكوكب الأزرق».. ونواصل بإذن الله تعالي