كتبت : جيهان زكى
ذاب اسم «منيرة» فى وعاء الذاكرة الجمعية المصرية وامتزج بالرمز الأنثوى الذى فاق البريق اللفظى، حيث إنه سَكَب الضوء على كل ما ومن حوله كالشمس المتوهجة.
«منيرة» ليست مجرد اسم عابر فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر لأن الأقدار أفسحت له فضاءات متفردة على ضفاف النيل، ميادين مختلفة ومتنوعة لدرجة أنه أصبح عنواناً لتميز المرأة المصرية أينما شقت طريقها بقوة وإقدام، متحدية العتمة، لتصنع من حضورها حدثا حضاريًا باهرًا.. أكانت «منيرة» تمسك شعلة فى يدها، أو قلمًا أو ميكروفونًا!
فى المعاجم اللغوية، اسم «منيرة» هو اسم عَلَم مؤنث عربى الأصل، معناه «المضيئة»، «المشرقة»، أو «المتألقة» أما فى لسان العرب، فكلمة «مُنِيرَة» تعود مرجعيتها إلى الاسم المفرد المذكر »مُنِيرٌ« وجذرها «نور».
دعنى عزيزى القارئ اشاركك وهج صاحبات النور «منيرات مصر» حتى لو أنى أعرف أنك تذكرت ــ بحسك التلقائى ــ عند قراءة العنوان، اسم «منيرة المهدية» سلطانة النغم والمواقف الوطنية لأنها بالفعل الأشهر فى ذاكرة المصريين!
ومن واقع اهتمامى بـ «ضفيرة» الفنون والسياسة، أود أن اذكرك بدور المطربة «منيرة المهدية» الوطنى التى بدأت مشوارها الفنى بالغناء من عِلية أهم منصات اكتشاف المواهب آنذاك، مقاهى الإسكندرية الشعبية وسرعان ما لفتت الأنظار بصوتها العذب وأدائها المسرحى، الذى مهد لها الطريق للانتقال لاحقًا إلى القاهرة وتصبح أول مطربة مصرية تقف على خشبة المسرح الغنائى..
حققت «منيرة» نجاحا ساحقا فى المجتمع المصرى وتألقت حتى أصبحت أيضا أول مطربة عربية تسجل أعمالها على الأسطوانات، ورغم ذيع صيتها فى مصر المحروسة، إلا أنها لم تكتفِ بالغناء، بل اقتحمت خشبة المسرح فى زمن كان تمثيل المرأة فيه «عيبًا» وجَرُؤت على القيام بأدوار عديدة بل وبلغت من الجراءة أنها ظهرت بدور رجل فى عرض مسرحى مع فرقة سلامة حجازى!
فى عام 1905، أسست مقهى فنياً تحت اسم «نزهة النفوس» فى القاهرة، والذى تحوّل إلى منتدى للنقاشات السياسية والفكرية كسابقة أولى لما يعرف فى الغرب بـ»المقاهى الثقافية» وخلال ثورة 1919، تحدّت «منيرة» الاحتلال البريطانى بأغنيتها الشهيرة «شال الحمام حط الحمام.. زغلول وقلبى مال إليه» رغم حظر ذكر اسم سعد زغلول.
ظل صوت «منيرة المهدية» يصدح فى العلن، بينما كانت عوامتها على النيل ملتقى سريًا للثوار ومحبى الوطن حيث قالت فى أحد اللقاءات التلفزيونية النادرة «فعلتُ كل ما فى وسعى لمناصرة قضيتى وقضية المصريين» وكانت منيرة أيضا صوتا دوليا للوطن حيث غنّت أمام مصطفى كمال أتاتورك حتى الفجر، وسُمِّيت سجائر فى سوريا باسمها، وسُجل اسمها فى «الكتاب الذهبى» لملك إيطاليا.
وعلى الجانب الآخر من ساحة النضال ومقاومة الاستعمار، ظهرت ثانى «المنيرات»، فبينما كانت منيرة المهدية تشعل المسارح، كانت منيرة ثابت والتى لقبت بـ«صوت المرأة» تشعل العقول فى ساحة القانون والسياسة.
وكانت أول مصرية تحصل على ليسانس الحقوق من باريس.. سجّلت نفسها كمحامية أمام المحاكم المختلطة، وأطلقت جريدة «الأمل» باللغتين، بالعربية والفرنسية، لتدافع من خلالها عن حقوق المرأة، وتهاجم الاستعمار بلا هوادة.
فى كتابها «ثورة فى البرج العاجى»، قدّمت منيرة ثابت مرافعة فكرية عميقة عن الوعى النسوى، وبصوت عقلانى لا يقل ثورية عن أى بيان سياسى.. شاركت فى المؤتمرات الدولية، وأسست مكانة للمرأة المصرية داخل النقاش الحقوقى العالمى.
وفى النصف الأول من القرن العشرين أى نفس الفترة الزمنية التى سطع وهج الـ«منيرات» السابق ذكرهن على وجه الوطن، أشرق نور منيرة توفيق التى لم تَسر على درب السياسة أو الفن الغنائى، بل اختارت الشعر طريقًا.
ولدت منيرة توفيق فى الإسكندرية، وبرزت فى النصف الأول من القرن العشرين من خلال نشاطها وكتاباتها للوطن والعروبة والحنين، نالت ميدالية ذهبية فى مهرجان شعرى عام 1942 وجمعت قصائدها فى ديوان واحد عنوانه «أنوار منيرة»، صدر بعد وفاتها عام 1965، واحتوى أكثر من 140 قصيدة مما يعتبر ارثا ثريا ومتفرداً فى زمن كانت القصيدة النسائية تقاتل لتُسمع.
لا تكتمل الحكاية دون ذكر الـ«منيرة» الرابعة، «منيرة سلطان» التى لقبت بـ «منيرة الزمان والمكان» فهى جزء أصيل من الذاكرة المعمارية لمصر.
الكُل يَعرِف حى المنيرة ولكن ربما لا يعرف الكثير عبق تاريخه وشهادة كل شارع بل كل بناية فى جنباته على قصة وطنية وحدوته مصرية.. من زمن الخديوية حتى حكايات الإعلامى محمود سعد على اليوتيوب والتى يسرد فيها تاريخ هذا الحى التاريخى.
حى «المنيرة» وسط القاهرة ما زال يتزين بقصر منيرة سلطان ابنة السلطان العثمانى عبدالمجيد الأول، وزوجة الأمير إبراهيم إلهامى باشا الذى تحوّل فى بداية القرن العشرين إلى المعهد الفرنسى للآثار الشرقية، أحد أعرق المؤسسات البحثية فى علوم المصريات فى الشرق الأوسط وقد حرص الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون على إدراجه على برنامج زيارته لمصر فى أبريل الماضى، ليؤكد أن البصمات لا تندثر حين توضع فى صلب الثقافة.
وفى ثلاثينيات القرن الماضى، بزغ نجم الشيخة منيرة عبده.. قارئة النور التى بدأت تلاوتها للقرآن الكريم بصوت بديع وهى لم تتجاوز الثامنة عشرة وكان صوتها قويًا وعذبًا، يُبكى القلوب ويجذب الأرواح، حتى أصبحت أول امرأة يُذاع صوتها فى افتتاح البث الإذاعى المصرى عام 1936، لكنها مُنعت لاحقًا من التلاوة، تحت حجة أن صوت المرأة «عورة»، فانسحبت فى صمت إلى بيتها، وماتت بعيدة عن الميكروفون الذى أحبّ صوتها أولاً وخذله ثانيًا.
أما الومضة الختامية، فهى لـ«منيرة.. صديقتى»
هى سيدة مصرية من رشيد، مدينة المليون نخلة والآثار الإسلامية البديعة والعمارة المتفردة والحفائر الأثرية التى غيرت وجه التاريخ فأكسبتها لقب «روزيتا الشرق».
جمعتنى الأقدار بصديقتى «منيرة» على ضفاف نيل المعادى، ودار بيننا حديث وتعانقت الكلمات والخواطر فربطت بين فكرى وفكرها.
عرفتها منيرة مستنيرة ومِقدامة من واقع خبرتها المهنية لسنوات طويلة فى المؤسسة الجامعية، تنظر إلى من يحاكيها بشغف وتقرأ عنوانه من النظرة الأولى، أما هو، فمهما اطال النظر إليها، لن يصل إلى ما يدور برأسها. سيدة مصرية ذكية بالفطرة!
رأيت فيها مرآة أمى، ورأت فى حبى لها حنان الابنة «البكرية» التى تلبس ثوب الأخت وأحيانا الصديقة وأحيانا أخرى زميلة الدرب المهنى التى دائما ما كانت تتذكره بفخر واعتزاز وتتحاكى عن إنجازاتها ومواقفها الشجاعة مع رئيس هذه المؤسسة العريقة وانبهارها بقيادته الحكيمة.
تحكى منيرة عن الحياة وتُسمعنى حواديت مصرية ممزوجة بخبرة الأيام وحكمة الزمان.
وها أنا اليوم، أكتب عنها، وعن كل «منيرات مصر».. نساء الضوء، الصادحات بالنور من قبل ان تقف المرأة اليوم على منصات القرار، وفى قاعات البرلمان، وتملأ ميادين الحياة حضورًا وإسهامًا.
عزيزى القارئ
الطريق لم يُُُمهد بين عشية وضحاها، بل مهدته من قبل نساء نادرات.. حملن اسم «منيرة»، ورفعن لواءه بجرأة وضمير من المسرح إلى المحكمة، ومن الصحيفة إلى القرآن، ومن القصيدة إلى البيت المصرى، كانت المنيرات، وما زلن، شموسًا تشرق على أرض هذا الوطن!