( 1-2)
بقلم/ جمال فتحي
عبرت البشرية قرونا و أزمانا تباينت في أنوارها وظلمتها وتقلبت بين شقائها وسعادتها، مرت خلالها بحقب من البساتين الفكرية المزهرة وحقب أخرى مقفرة؛ حكمها الفقر الفكري والضحالة المعرفية والحقد والكراهية وسالت أثر ذلك أنهار من الدماء، حدث هذا في الشرق والغرب على السواء وحتى قبل أن يكون هناك شرقا وغربا بالمعني الذي نعرفه الآن.
وعندما نعود مثلا إلى تاريخ أوربا ومنها بدأ عصر الأنوار وبزغ فجر الحداثة والتنوير الذي يشير المؤرخون لإرهاصاته التي بدأت من النصف الثاني للقرن الخامس عشر تقريبا والذي انطلقت معه أوربا إلى تاريخ آخر نما شيئا فشيئا بعد أن ألقى بذور النهضة الإصلاحيون ودعاة التنوير وتراكمت جهود الفلاسفة والمفكرون
ومنهم: جون لوك، فولتير، هيوم ، جان جاك روسو ، كانط، وديدرو وغيرهم، على اختلاف قومياتهم وأفكارهم بين من دعا للتجريب طريقا للمعرفة واليقين ومن دعا للحق في التعبير والاعتقاد ومن وضع نظرية العقد الاجتماعي ومن كتب في التسامح وهاجم تسلط الكنيسة، عندما نعود لهذا الفصل من التاريخ علينا أن نتذكر أن عصر الأنوار هذا سبقته قرون من الظلام الدامس غرقت فيه أوربا؛ ساد فيها التعصب الديني والجهل الفكري وعاني فيه الإنسان الأوربي معاناة شديدة وذاق ألوانا من التمييز والتعذيب والإقصاء و التفتيش
وإذا كان فلاسفة أوربا ومصلحوها قد أسسوا وشقوا مسارا للتنوير الذي مهد الطريق لنهضة أوربا اللاحقة ، فقد كان للفكر والعقل العربي إسهامه الأسبق وهو تراث معروف سواء على مستوى العلوم والطب والرياضات أو الفلسفة وغيرها، وهو ما اتكئ عليه فلاسفة أوربا واقتفوا أثره ، وها هو العقل العربي يجدد أمره ويعبر عن نفسه من جديد في حاضرنا الراهن ويعطينا بارقة أمل في عودة ذلك العقل إلى دائرة الفاعلية والتأثير عبر جهد وفكر الشيخ العلامة عبد الله بن بيه( رئيس منتدى أبو ظبي للسلم ومؤسسه).*(1)

العلامة الشيخ عبد الله بن بيّه
وإذا كان الشيخ العلامة فقيها مجددا في المقام الأول فهو فقيه بروح فيلسوف وقلب إصلاحي وعقل تنويري؛ وفر له هذا كله استعيابه اللافت لمنجز الفلسفة الغربية – أشرنا إلى عدد من أعلامها في السطور السابقة – واتكائه الراسخ على التراث الثقافي العربي بشقيه الديني والفلسفي.. وشيخنا يحاول منذ عقود زرع بذرة تنوير وشجرة عقلانية في تربة الحاضر العربي والإنساني الحرج ليعيد إلى الأذهان الدور التنويري والإصلاحي لفلاسفة عصر النهضة جميعا.
ولا شك أننا عندما ننظر إلى حاضرنا الراهن وواقعنا المحيط نجد أن الإقليم اليوم بل والعالم يعيش بلا مبالغة لحظات حرجة ويواجه مستقبلا ضبابيا حيث تشق سفينة البشرية طريقها وسط أمواج متلاطمة وعباب كثيف.. وتحتاج إلى كل جهد مخلص واجتهاد عقلاني مستنير يدفع بالسفينة إلى شاطئ السلم وبر السلام.
وهنا نستدعي إلى الذهن دور ” منتدى أبو ظبي للسلم ” الذي أسسه الشيخ العلامة عبد الله بن بيه بسعيه المخلص إلى بناء عالم جدير بالعيش المشترك.. وقد نشأت فكرة “منتدى أبو ظبي للسلم” لدى معالي الشيخ عبد الله بن بيه – كما هو معروف وما أعلنه مرارا – من خلال وعيه بما تعيشه المجتمعات المسلمة في المرحلة الراهنة من حالة اصطفاف أيديولوجي واحتراب أهلي، دفع بالأمة إلى الشقاق والافتراق، وغدا كل طرف يبحث عن من يستقوي به على خصمه في دوامة صراع على البقاء مآلها الحتمي إلى الفناء. في ظل هذه الأوضاع، استشعر الشيخ عبد الله بن بيه الحاجة الماسة إلى خلق فضاء من الحكمة والتفكير يسع الجميع، ويضم أصوات أولى بقية من المؤمنين بالسلم وكونه الضامن الحقيقي لسائر الحقوق، إذ لا حقوق إلا بتوفر حالة من الوفاق المجتمعي تضمن الكليات الخمس التي أجمعت عليها الشرائع والأمم (الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال)
كيف نبدأ رحلة السلم؟!
وفي هذا السياق نستدعي الكثير من المقولات والأفكار والجهود اللافتة التي قدمها العلامة بن بيه – وما يزال- من أجل تحقيق هذا الهدف… وأول ما نعود إليه “سؤال” جدير بالتوقف أمامه طرحه شيخنا الجليل بن بيه في كلمته للتأطيرية الأولى للمنتدى مارس عام 2104
السؤال هو.. “كيف نبدأ رحلة السلم؟”، يبدو السؤال بسيطا في الظاهر لكنه في الحقيقة سؤال غير تقليدي بل وهو أقرب في صياغته إلى منطق الفلاسفة وهاجس الإصلاحيين؛ فالبحث عن ” السلم” ليس ترفيها ولا نزهة والاتجاه إليه ليس ترفا ولكنه من ” واجب الوقت” وهو “رحلة شاقة” وتحتاج إلى عزم ودليل وإخلاص.
وقد غرس شيخنا الجليل في الملتقى الأول عام 2014 “شجرة سلم”، لتكون معادلا موضوعيا لما أسماه ” فقه السلم” وتعهدها بالرعاية والسقي ليقوى جذعها ويمتد فرعها وتثمر أقناؤها وأغصانها وذلك – على حد تعبيره في كلمته للملتقى – بعد ضمور قيم المحبة والتعايش والسلم في المجتمعات المسلمة مع كونها من أمهات القيم في سلم المقاصد الشرعية
وإذا تأملنا خطاب بن بيه وحديثه عن “السلم” وتصوره لهذا السلم وأبعاده فستجد أن ” شيخنا الجليل” لا يتحدث عن السلم بمفهومه الضيق الذي يتصوره الكثيرون حتى من رجال الدين والساسة بمعنى انه” اللا حرب” أو تجنب الخصومة والصراع” ولكنه يشير ويؤكد على نظرة خاصة وفريدة للسلم الذي يراه بعين الحكمة وروح الفلسفة التي تبحث عن “الإنسان” وتبتغي “سعادته” إذ يرى أن السلم ” ليس هو عدم الحرب وإنما اتحاد الأرواح ” وليس” تجنب الخصومة ولكن السعي للألفة والحب” و” التحول من دوائر الصدام إلى آفاق التعارف” ليس هذا فقط بل يرى شيخنا الجليل ما هو أبعد وأنضج من ذلك كدأب الفلاسفة والحكماء في البحث عن الجوهر ورد الأشياء إلى عللها الأولى فيؤكد أن السلم” هو مصالحة مع الذات قبل أن يكون مصالحة مع الغير” * (3)
وهنا مشقة الرحلة التي نقصدها؛ فجهاد النفس هو أصعب وأثقل وكسرها وهزيمة شرها وتطهيرها أمرا ليس هينا رغم بساطته فهو حرب داخلية يعلنها الإنسان على شره وأنانيته وطمعه وتشدده ورغبته في الثأر من الآخر أحيانا ، ولأن النفس هى بيت الإنسان الداخلى فقد رأى شيخنا الجليل أن ” من لم يرتب بيته من الداخل لن يحقق شيئا في القضايا الخارجية” * ( 4) فلا سبيل إذن أن تصنع سلاما مع العالم/ الغير إلا إذا استطعت أن تصنعه مع نفسك أولا.. هكذا يرى بن بيه الأمر ببساطة مدهشة وبفلسفة لافتة وبنسق تفسيري وإرشادي متكامل للأمر، وقد اختلف شيخنا الجليل مع الفيلسوف الألماني ” كانط” على تقديره اللافت لفلسفة الرجل ودوره في تأسيس نظرية الأخلاق في الفكر والفلسفة الغربية حيث أعاد ترتيب ” السِلم” ليرفعه على “الحق” في سٌلم الأوليات والمقاصد” وقد جمع كل ما يريد قوله في تعبير دال وبليغ إذ يقول” إن الدعوة إلى السلم حق” ومن تفسيراته وحيثياته الجديرة بالنظر في هذا قوله إن ” الحقوق الثابتة أو المزعومة مادية أو معنوية، فردية أو جماعية، دينية أو دنيوية هى فرع عن السلام ولا ثبوت لفرع دون أصل” .. وهنا – كما في كثير من الأطروحات والقضايا التي يتصدى لها العلامة – نستطيع الإمساك بروح الفيلسوف الذي يذهب إلى غاية أعم وأشمل في حديثه عن السلم وطرح الأسئلة حوله وهي أن السلم والسلام غاية إنسانية وعلينا جميعا أن نتجهز لرحلة حتمية إليه تفاديا للهلاك ! وليس مجرد حالة إقليمية أو اتفاق أو معاهدة بين دولتين أو أمتين .
وهل أدل على ذلك الأفق الإنساني الذي يتبدى في نظر شيخنا الجليل إلا ذلك السؤال أيضا الذي طرحه بناء على سؤاله السابق.. وهو
لماذا لا تتحدثون عن السلم العالمي بدلا من السلم الإقليمي؟!
والسؤال هنا للجميع وإجابته واجب الجميع والجميع هنا هي الإنسانية كافة بعقلائها وحكمائها وحكامها فشيخنا يتجاوز في شواغله فكرة العقائد والأديان والألوان إلى معنى أشمل وأعم هو الإنسان، وبحثا عن كرامة وسعادة وسلام هذا الإنسان يضاعف شيخنا جهوده كلها ويعمق الحفر في كل المسارات التي يمكن أن تصل بنا إلى ذلك الأمل المرجو ، فالسؤال يكشف بوضوح هذا التطلع الإنساني في النظر للسلم، وربما ما يعيشه العالم والإقليم الآن من هواجس الفناء والدمار الجماعي الذي لا يميز بين أبيض وأسود أو بين رجل وامرأة يجعلنا في أمس الحاجة للالتفات إلى أطروحات العلامة الجليل وتفسيراته الإنسانية والطريق الذي دأب منذ عقود على شقه في اتجاه سعادة الإنسان وصون كرامته وجدير بنا في هذا السياق أن نشير إلى ثمار جهود الشيخ ومنتداه الذي انطلق منذ ما يقرب من 10 سنوات وثمار” شجرة السلم” التي زرعها وتنوعت ثمارها كما في إعلان مراكش لحقوق الأقليات 2016، وتأسيس حلف الفضول 2019، و” إعلان أبو ظبي للمواطنة الشاملة 2022″ غيرها من ثمار جهده المخلص الذي يصعب حصره في هذا السياق.

“نعيم” الآخر وليس.. “جحيمه”!
وتقودنا رؤية شيخنا الجليل لرحلة السلم وبشكل منطقي إلى ” الآخر” مهما كان هذا الآخر/ الإنسان وفي أي بقعة يعيش باعتباره شريك ذلك “السلم” وهذا “التعايش” المأمول وبطل “التعدد والاختلاف”
والحقيقة أن للشيخ العلامة نظرته المبصرة لهذا الآخر يختلف فيها بوعي فلسفي واضح وخصوصية في الطرح فإذا كان “أرسطو” يرى أن ” الآخر” هو اللاموجود في مقابل الموجود أو هو الذي يجب ” الهيمنة” عليه لتكتمل الذات ويكتمل وعيها بنفسها كما في تصور هيجل، أو ربما هذا الآخر يمثل ” الجحيم ” كما عند سارتر وغيره فإن شيخنا يقبض على حقيقة هذا الآخر في الرؤية الصحيحة للإسلام وتكشف هذا كلمته في ” التأطيرية الخامسة” إذ يقول: إنما الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام على رضى الله عنه بقول” الناس صنفان أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق” أي أجمل الأخوة في المعتقد والخلق
وربما يذهب أغلب المفسرين والفلاسفة ورجال الدين عند حديثهم عن التعدد والاختلاف إلى المعاني القريبة في فهم التعدد مطالبين أن يتقبل الناس التعدد والاختلاف باعتباره سنة كونية مستندين إلى قوله تعالى” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” * ( 5) ، وقوله جل شأنه ” إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” *( 6)، لكن عند النظر إلى فكرة الاختلاف والتعدد والتعايش المشترك كما تتجلى في خطابات الشيخ وفلسفته وكلماته نجدها تتجاوز
حدود تقبل الآخر كأنه “بلاء ” يحتاج إلى الصبر عليه والتعايش معه أو الإحسان إليه والعدل في معاملته لاسيما إذا كان يشكل أقلية في بلاد أغلبيتها من المسلمين وربما الدعوة إلى عدم المساس بحقوقه والإضرار به إذ يقفز بنا الشيخ بن بيه إلى ما هو أبعد من ذلك في فهم هذا الاختلاف حيث يرى أن الاختلاف ثراء وجمال مطلوب في ذاته يعطى لتجربة الوجود البشري معنى إضافيا وقيمة جديدة أكثر اتساعا في معانيهامن مجرد قبول هذا الآخر المختلف وعدم المساس به؛ فالمعنى هنا يذهب – ربما – في تصوري إلى تعظيم هذا الاختلاف والتمتع به والحرص عليه والاستفادة الروحية منه بل والذهاب إليه حيث كان وتوظيفه في الاتجاهات ، وهو الأمر الظاهر في فتاوى الشيخ التي تتعلق بأهل الكتاب مثلا؛ فهم لديه شركاء لا رعايا، تجمعنا بهم “المواطنة” والواجبات والحقوق المتساوية دون غيرها، وبخاصة مع دوام التطور وهنا مناط الاستنارة في الفهم والتأويل وعدم الانفصال عن الواقع واستيعاب المتغيرات الزمانية الجذرية التي شملت العالم والإنسانية وبلاد المسلمين جزء منها، ومنها أيضا تأكيد شيخنا بن بيه على التفريق بين ” بداهة التعددية ” والتسليم بها وفي الوقت نفسه حرصه على حفظ ثوابت الدين والهوية ورفض “التنميط ” إذ لا يمنع في فهمه احترام المسلمين لقوانين البلاد التي يعيشون بها من جهة من مراعاة خصوصية المسلم وعدم الذوبان في المجتمع الجديد حد التلاشي والتنازل عن ثوابت دينه؛ وهى استنارة تسعى بوعي للاندماج لا الانصهار، والتلاحم لا التلاشي
ونلاحظ في إعلان مراكش تأصيله لفهم حقيقي ومستنير للعلاقة بين المختلفين والأغلبية والأقلية وترسيخ للتعدد الواعي انطلق فيه شيخنا من جوهر صحيفة المدينة” كما انطلق في سياق آخر من جوهر ” حلف الفضول” التاريخي إلى حلف حديث مماثل يستلهم روحه وجوهره ويسهم في إعادة الاعتبار إلى المروءة الإنسانية في وقتنا الراهن.
وهنا نتيقن من أننا أمام نسق كامل ومتناغم من التفكير الفلسفي المستنير في ما يجب أن تكون عليه حياة الناس فالأمر نفسه أشرنا إليه في السطور السابقة في حديثنا عن تصور بن بيه لـ “السلم” إذا لا يكتفي شيخنا بالوجه السلبي أو الفهم السلبي للسلم وهو عدم الحرب ، وإنما يرى ضرورة السعي للسلم والاتجاه إليه بالذهاب إلى الطرف الآخر بحثا عن التآلف واتحاد الأرواح تماما مثلما يرى ضرورة الذهاب للتعدد بمنطق البحث عن القيمة والجمال وليس مجرد التعايش مع الآخر المختلف حتى يزول..
إن جهد وفكر وعطاء الشيخ العلامة عبد الله بن بيه وما قدمه من أطروحات وأفكار وما توقف عنده من محطات تاريخية ومفاهيم شرعية وحوادث ونصوص وأحكام وتصورات راسخة ليعيد النظر فيها بعين المجدد ويدفعنا لإعادة النظر فيها جميعا بحثا عن ممر آمن لشعوب تلك المنطقة بل ويتجاوز إلى الإنسان العصري في كل بقاع الأرض ..ممر يقودنا نحو وضع نهاية لشقاء الإنسان على الأرض واستبداله بسعادة روحية هو جدير بها، لهو جهد جدير باستعراضه والتوقف أمامه بالبحث والمناقشة وفكر جدير بتداوله والنظر فيه ورفعه إلى المرتبة التي تليق به.
هامش:
(1)*- أسسه الشيخ العلامة عبد الله بن بيه عام 2014وتولى رئاسته ويسعى إلى تعزيز ثقافة الحوار ونشر التآلف والتآخي ومواجهة كل أشكال الصراع والعنف في كل مكان في العالم
(2)* – كلمة العلامة عبد الله بن بيه – التأطيرية الأولى – مارس 2014
(3)*- من كلمة العلامة بن بيه في التأطيرية الثانية أبريل- 2015
( 4)*- التأطيرية الرابعة – ديسمبر 2017
(5)*- سورة هود – 118
(6)*- سورة الحجرات- 13