كنت أتطلع إلى صور الفتيات اللواتى قُتِلْن على الطريق الإقليمى بالمنوفية، ويخيل إلى أن كل واحدة منهن جاءت تسألنى شخصيا «بأى ذنب قتلت يا عمي؟» لقد أعجزتنى الكلمات وغلبتنى الدموع المنهمرة، وكأنى هممت ان أقبل رأس كل واحدة منهن مواسيا ومعتذرا، كانت الرءوس محطمة والجباه ممزقة وخصلات الشعر متدلية لكنها مصبوغة بالدماء الزكية، كانت أحلامهن ان يعملن بشرف ويتقاضين أجرا بكرامة يعينهن على شراء لقمة وهدمة وشربة ماء، كانت الأحلام تداعب خيال كل فتاة.
>>>
منهن من كان حلمها أن تصبح مهندسة كبيرة مشهورة مثل زها حديد، وأخرى كانت تحلم بأن توفر مصاريف الدواء لوالدها طريح الفراش، وثالثة كانت تعيش حلم توفير المال لتذهب إلى بائع الفساتين الجديدة والأحذية التى تتحمل كعوبها السير على الأقدام لمسافات بعيدة من باب الدار وحتى محطة القطار، أحلام كل فتاة منهن كانت بسيطة وبسيطة جدا، كان الشعر حبيس الضفائر ومن فوقه المنديل أو الطرحة.
>>>
انتظارا ليوم الفرح حيث الذهاب إلى الكوافير ليضع على خدودهن الوردية بعضا من الماكياج ويفك تلك الضفائر الحزينة التى استمرت حبيسة لسنوات، كانت كل فتاة منهن تحمل فى صدرها حلما، لكن هناك من قتل هذه الأحلام، حيث رحلت تلك الفتايات.. كلهن رحلن.. كلهن متن، حاولت بكل ما أوتيت من قوة ان افتح ذراعى لاحتضن أرواحهن واستغرق فى بكاء يريح القلب المنهك والضمير المكلوم، لقد أبت تلك الأرواح.. إنها أرواح غاضبة باكية حزينة.
>>>
كانت نظرات اللوم والعتاب قاتلة كأنها رصاصات مسمومة فى قلب ما عاد يتحمل مزيدا من العتاب، إحداهن نظرت إلى وقالت عاتبة «يا عماه.. بأى ذنب قتلنا؟» وقالت أخرى «لماذا هكذا كان المجتمع قاسيا؟» وقالت ثالثة «لن نسامح من قتلنا» وقالت رابعة «هاتوا لنا حقنا» ورددن جميعا «خدوا بالكم من أمهاتنا وآبائنا وأخواتنا وإخواتنا»، كنت أتحسس موضع أقدامهن لأقبل التراب الذى حظى بسيرهن عليه وهن الشريفات الباحثات عن لقمة العيش الحلال.
>>>
كنت أبحث عن أثرهن حتى أقتفيه وأتذكر أياما خوالي، لقد فتحت هذه الحادثة كتاب ذكرياتى القديمة، لقد كنت فى موضعهن تماما وتعرضت كثيرا لما تعرضن له، لكن القدر كان رحيما بي، كنت وأنا فى سنوات الدراسة أخرج إلى العمل فى الإجازة الصيفية بحثا عن جنيهات أوفرها لمصاريف الدراسة والكتب والملابس الجديدة وشراء الكتب والصحف والمجلات، تذكرت أحلام الفقراء البسيطة التى تكمن فى الصحة والستر والنجاح والتفوق والاستغناء عن مخاطبة اللئام.
>>>
أحلامهن الموؤدة أيقظت أحلامى القديمة، مجهود استثنائى وتعب وعرق وكفاح وسهر من أجل مستقبل قد يكون أفضل، قلبى يتمزق – كأب – على هؤلاء الفتيات الجميلات الشريفات الراحلات المعاتبات لنا جميعا، لا أريد الآن على الأقل أن أتحدث عن الحادث كخبر وتحليل أسباب ومسببات ومسئوليات، بالتأكيد الحادث نتيجة إهمال مهمل وتقصير مقصر وفساد فاسد وظلم ظالم وشاهد زور، وقطعا سيحاسبون جميعا أمام القانون وان عجز القانون عن إحقاق الحق ورد المظالم والانتقام من القتلة فهناك من هو أكبر من الجميع..
>>>
فلينتبه الجميع إلى أن الله يراه فى سره وعلنه «ألم يعلم بأن الله يري»