يا عزيزى .. توقف فورا عن مصارعة كل تفاصيل الحياة، فلن تنتصر فى كل المعارك ولن تقصى جميع المنافسين ولن تقضى على كل الاعداء، الخلاصة أنك لن تأخذ كل شئ تريده نفسك التى لا تتوقف رغباتها عند حدود الإشباع وإنما تتمدد إلى آفاق حب التملك والتحكم فى رغبات الآخرين، فكن رحيما بنفسك المسكينة ودعها تعش فى هدوء دون قلق وترحل فى هدوء دون ضجيج، وأعلم ان من كان ملكا قد رحل ومن كان مملوكا قد رحل أيضا، أذهب إلى القبور لترى بنفسك تلك الأسماء الرنانة التى كان يظن أصحابها أنهم لا غنى عنهم وأنهم مخلدون.
> > >
خذ منهم الدرس وهم رقود ، ثم عُد إلى نفسك فأدبها وانزع ما بها من أطماع وأحقاد، حينها سيرحل عنك القلق وينعم الله عليك بنعمة الاستغناء وتهب عليك نسمات الرضا، فلا يوجد فى هذا الكون أعظم من الشعور بالرضا، ولا أرقى من الاستغناء.
“الاستغناء” عن كل ما يمس الكرامة ويجرح الكبرياء سواء كانت أشياء أو أشخاصًا بمنتهى السهولة ودون عناء ، فالنفس البشرية شديدة التعقيد والبساطة فى آن واحد، ونقائص تلك النفس وثغراتها تقود إلى فقدان الراحة وصولا إلى الهلاك.
> > >
فيظل أحدهم عبدًا ذليلاً لنقائصه دون أن يدري، وقد تكون هذه النقيصة حبًا لسلطة أو مال أو جاه أو سلطان ولايمكن لأحد أن ينكر على أحد آخر حبه أو تعلقه بمثل هذه الأمور، ويتصارع الناس ويحيك بعضهم لبعض المؤامرات من أجل أمور لا يملكها أحد، وهنا سينتصر على جميع المتنافسين والمتصارعين شخص لم يدخل الصراع من الأساس، أتدرون من هو؟ هو عزيز النفس القادر على الاستغناء، فالإنسان يكون غنيًا بعدد الأشياء التى يستطيع الاستغناء عنها كما يقول ديفيد هنرى ثورو.
> > >
والقبور مليئة بالرجال الذين لا يمكن الاستغناء عنهم كما قال شارل ديجول، والاستغناء ليس قرارًا يتخذه أحدنا فى لحظة غضب ثم يندم عليه لاحقا، الاستغناء شعور جارف وعارم وفادح بالقوة والغنى والثقة والرضا، وكما تقول “الغنى فى الاستغناء” وقوتك وإيمانك معا يقاسان بمدى قدرتك على الاستغناء عن أشياء تحبها أو تتعلق بها وتظن أنك لا تستطيع الحياة بدونها ويظن الآخرون أنك بدونها لاتساوى شيئا ،وهنا يقول الشاعر “لا تـسْقِنِـى مـاء الحياةِ بِـذِلـة بلْ فاسْقِنِـى بِالعِـزِّ كـأْس الحنْظـل”.
> > >
ويقول المتنبى “أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبى * ويا نَفسِ زيدى فى كرائهِها قُدْمَا فلا عَبَرَتْ بى ساعَةٌ لا تُعِزّنى * ولا صَحِبَتْنى مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا عِشْ عزيزا أوْ مُتْ وَأنتَ كَرِيمٌ * بَينَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ”، يقول الرافعى “وأنزلته من درجة أنه كلّ الناس.. إلى منزلة أنه ككلّ الناس.” هنا وقع الاستغناء وانتصرت النفس، بيد أن الاستغناء المحمود يكون عن الرزايا والمنايا وأطماع النفس ونزغات الهوى وحب الدنيا، لكن الاستغناء لا يعنى اللامبالاة وليس مرادفا لمفردات معنى “امش جنب الحيط” الاستغناء ليس هروبا من المواجهات لكنه فهم حكيم لحقيقة الصراع ونهاياته البائسة المربكة.
> > >
فلا يمكن الاستغناء عن أمور كثيرة فى حياتنا لكنها لا تمثل نقائص ونقاط ضعف تذهب بماء الوجه الذى لا يباع ولا يشترى ، لقد ممرت بتجارب شخصية عديدة وفى أمور شتى أيقنت من جماع نتائجها أن الحياة أقصر من المضى قدما فى رحلات البحث عن جاه او سلطان، وسنين العمر تتفلت منا كما المياه من بين أصابعنا، فلا وقت للأطماع والصراعات حول ما ليس لنا وما ليس بأيدينا ، فقط علينا أن نعمل بجد ونفكر بوعى ونتصرف بحكمة ونرضى بما هو حاصل وجارى لأنها أقدار مقدرة بعناية ودون عبث.
> > >
فطالما الأمر كذلك فعلينا أن نتلذذ بطعم الاستغناء وندمن مذاقه الفريد