لم يعد المرء منَّا قادراً على تحمل المزيد من الشعارات البراقة الخالية من أى مضامين، لقد مللنا من تلك الخيالات الفكرية التى يؤمن بها البعض ويحاول أن يروِّج لها وهو أصلا غير مؤمن بها من داخله، يبدو أن هذا العصر سيشهد سقوط الكثير من تلك الأوهام التى ما عادت مقبولة حتى على سبيل الفكاهة والسخرية، ارتفع منسوب الملل لدى الكثيرين جراء تكرار نفس الجمل فى كل المواسم والمناسبات على لسان شرذمة قليلين من ورثة الأفكار المعلبة القديمة والتى انتهت مدة صلاحيتها.
>>>
تخيل أنك دخلت إحدى دور الأزياء العالمية لمعرفة آخر خطوط الموضة وابداع التصميمات وتجد أمامك مكوجى الطرابيش يستقبلك بحفاوة بالغة عارضا عليك منحه الفرصة ليشرح لك أهمية لبس الطربوش فى زمن الخوارزميات، ماذا سيكون رد فعلك حينئذ؟ هل ستضيع وقتك وجهدك فى الاستماع؟ وهل ستنفق مالك فى شراء ذلك الطربوش الذى لن ترتديه؟ مثل مكوجى الطرابيش المتواجد فى المكان الخطأ نجد أمامنا عشرات الأشخاص يحاولون إقناعنا بأشياء وهمية غير واقعية لكنهم يهدرون وقتنا وجهدنا.
>>>
الغريب أن هؤلاء لا يمل احدهم من تكرار عرض بضاعته الراكدة على نفس الزبائن الذين يرفضونها فى كل مرة، مثل مكوجى الطرابيش الذى قابلته فى دار الأزياء الفاخرة وعرض عليك القيام بكى الطربوش غير الموجود من الأساس، نجد بعض الكتَّاب والمثقفين والمفكرين يعيدون صب الزيت القديم فى أوان جديدة دون النظر فى تقبل الناس لما يصبونه من عدمه، فاذا لم تحمل الكلمات والعبارات أفكارًا جديدة متكاملة وقابلة للتطبيق لتساهم مع غيرها فى تغيير الواقع فلا قيمة للكلمات ولا وزن للمتكلم.
>>>
فالكلمات كالطلقات لابد وأن تساهم فى إصابة هدف ما فى وقت ما، أما أن تطلق دون هدف فستتحول إلى مساحة من الضوضاء.
لذلك نجد كلاما منمقا ومرتبا وبليغا لكنه لا يحمل بين طياته فكرة ولا يسير مع غيره ليكوِّن مسارا معرفيا يتحول إلى مسار فكرى يساهم فى بناء آليات التغيير المجتمعى المستهدف، ونجد أيضا على الجانب الآخر أفكارًا تبدو براقة لكنها تظل مكانها لا تقوى على الانتقال من مربع الفكرة إلى مربع التطبيق، فمعظم الأفكار الشيوعية والاشتراكية وأفكار اليسار بشكل عام يغلب عليها الطابع المثالى حيث الاستغراق فى ثنايا الرومانسية النظرية غير القابلة للتطبيق.
>>>
فمعظم من تحدث عن العدالة الاجتماعية والمساواة والملكية الجماعية والتخطيط المركزى المفرط لم ينجح فى وضع خريطة لتنفيذ هذه الأفكار على أرض الواقع، اعتمد اليسار على النظريات المتكاملة التى تبدو براقة ومثالية وتدغدغ مشاعر الجماهير لكنها لم تقو على الوصول إلى أرض الواقع، إنها نظريات فى عقول المنظرين وكلمات فى أفواه المتكلمين والخطباء، كذلك استمر تلك الشعارات فى أذن الجماهير تشنِّف أذانهم ولا تسد رمقهم فكم مرة سمعت وتابعت حديث أحدهم عن العدالة الاجتماعية؟
>>>
هؤلاء يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما يمنعون الناس من فعله، الخلاصة أننا أمام أفكار ومدارس ثلاث جميعها لم تستطع تقديم خارطة طريق واضحة ومقبولة وقابلة للتطبيق على ارض الواقع، كل ما ساهمت به تلك المدارس هو اتساع دائرة الصراع والخلاف بين أفكار وأيديولوجيات ومدارس تعمقت حتى باتت صراعا بين الحضارات وانتهت بصراع مميت نعيش خلاله الآن بين الاديان.
كان الهدف من كل تلك المدارس هو راحة الانسان وسعادته وشعوره بالعدل والمساواة مما يشيع جوا من الحب والاستقرار والشعور بالأمان بين بنى البشر، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، فلا النظام الديمقراطى حقق الحرية ولا للنظام الديكتاتورى حقق الأمن ولا الرأسمالية صنعت الغنى ولا الاشتراكية قضت على الفقر، وكذلك أصحاب الايديولوجيات الدينية لم ينجح احدهم فى تحقيق العدل ولا الحق ولا المساواة!
اذن ماذا عسانا نفعل فى وسط هذا الإخفاق الفكرى والتعثر الحضارى والضبابية الثقافية؟ ماذا يمكننا أن نقول ونفعل وسط عالم مشوه إنسانيا حيث تغلبت نزعات الشر على الخير وتعملق الباطل على الحق وصارت القوة هى الكلمة العليا فوق القيم الانسانية؟
>>>
قول واحد هناك مسارات تحتاج فكراً جديداً ومختلفاً لكن أين هم المفكرون؟؟؟