فى العصور السابقة قبل ظهور السوشيال ميديا، كان النقد يمر عبر أكاديميين ونقاد متخصصين في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، أما اليوم فمنصات التواصل الاجتماعي أتاحت لكل فرد من الجمهور منبراً للتعبير عن رأيه دون رقابة أو محاسبة، بغض النظر عن خلفيته المعرفية أو خبرته الفنية. هذا التحول خلق ما يشبه «ديمقراطية النقد الرقمى»، والتي قد تبدو في ظاهرها صحية، لكنها في الواقع ربما تكون قاسية على الفنانين، فيجد النجم نفسه فجأةً أمام سيل من الآراء بل وأحياناً كثيرة تتحول من ديمقراطية الى عشوائية النقد غير المتخصصة والتي قد تكون سطحية، عاطفية، أو حتى متحيزة، مما يصعب معها فصل النقد البناء عن مجرد التنفيس أو الهجوم الشخصي فأصبح الفنان أكثر عرضة لآراء قد تكون مؤذية، مما يؤثر على ثقته بنفسه وإحساسه بقيمته الفنية، فينشأ رأى سلبى بسرعة كبيرة يتبناه الكثيرون دون تفكير مما يخلق شعوراً جماعياً بالرفض يصعب على الفنان تجاهله فينتهي احيانا بهجوم من الفنان أو من عائلته واحبابه عن المسموح والممنوع في نقد الفنانين والفنانات في اعمالهم لذا يجب التفرقة بين النقد البناء والهدام وبين السب والقذف لأن نقد الجمهور للنجم قضية معقدة تتداخل فيها الجوانب النفسية والاجتماعية والفنية. ويجب وضع حدود واضحة للنقد، وتعزيز ثقافة الحوار المحترم، وكلها أمور ضرورية لخلق بيئة فنية صحية ومزدهرة.. «الجمهورية» تناقش القضية وتتساءل هل للنقد حدود؟ وهو ما تسجله السطور القادمة.
يقول الناقد الفنى محمد علام: تحظى المسلسلات التليفزيونية في مصر بمتابعة جماهيرية واسعة، وتثير تفاعلاً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعى وبين الإشادة والثناء، يبرز جانب آخر يتمثل فى النقد الذي يوجهه الجمهور للأعمال الفنية وأداء الممثلين. هذا النقد، الذى يتراوح بين الآراء الموضوعية والانتقادات اللاذعةش، كثيراً ما يثير غضب واستياء الفنانين والفنانات، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول حدود النقد المقبول وتأثيره على العلاقة بين الفنان والجمهور.
وتتعدد مظاهر غضب الفنانين من نقد الجمهور. فمنهم من يلجأ إلى تجاهل الانتقادات أو حذف التعليقات السلبية من صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعى والبعض الآخر يرد بشكل مباشر على المنتقدين، وفى بعض الأحيان يتخذ الرد طابعاً حاداً أو شخصياً. وقد وصل الأمر ببعض الفنانين إلى التعبير عن استيائهم علناً فى وسائل الإعلام أو المؤتمرات الصحفية، معتبرين أن بعض الانتقادات تتجاوز حدود النقد البناء وتصل إلى حد التجريح والإهانة.
أسباب الغضب:
الناقد الفنى آمن على غويل: يرى أن النقد الذي يوجهه الجمهور في كثير من الأحيان غير متخصص وليس ملما بكواليس العمل الفني والجهد المبذول فيه. كما أن بعض الانتقادات تستند إلى آراء شخصية أو تحيزات مسبقة، ولا تركز على الجوانب الفنية والأدائية بشكل موضوعى، بالإضافة إلى ذلك، يشعر بعض الفنانين بأن وتيرة النقد السلبى على وسائل التواصل الاجتماعى أصبحت مبالغاً فيها، و تخلق أجواءً سلبية تؤثر على حالتهم النفسية وإبداعهم.
يوضح لا شك أن النقد البناء يمكن أن يكون له دور إيجابي في تطوير أداء الفنانين وتحسين جودة الأعمال الفنية. ولكن عندما يتحول إلى تجريح أو إهانة، فإنه يؤدى إلى نتائج سلبية. فقد يصاب الفنان بالإحباط وفقدان الثقة بالنفس، ويؤثر ذلك على رغبته في تقديم أعمال جديدة. وفي بعض الحالات، قد يدفع النقد السلبي الفنان إلى الابتعاد عن بعض الأدوار أو الأعمال التى قد تثير جدلاً.
حدود النقد
يكشف المؤلف عبد الجليل عبد الغني : أن موضوع نقد الجمهور للفنانين يثير تساؤلات حول حدود هذا النقد. فمن حقه التعبير عن آرائه حول الأعمال التي يشاهدها، ولكن يجب أن يكون هذا في إطار من الاحترام والتقدير للجهد المبذول، فالنقد البناء يركز على العمل الفني وأداء الممثل بشكل موضوعى، ويقدم ملاحظات تهدف إلى التحسين والتطوير، أما التجريح والإهانة، فإنهما يتجاوزان حدود النقد المقبول ويتحولان إلى إساءة شخصية.
يضيف عبد الجليل، أنه العلاقة بين الفنان والجمهور يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل. فالفنان يقدم جهده وإبداعه، والجمهور له الحق فى التعبير عن رأيه ولكن من الضرورى أن يكون هذا التعبير بناء ويهدف إلى إثراء الحوار الفنى، بدلاً من أن يتحول إلى ساحة للخلاف والتجريح. فخلق بيئة إيجابية ومشجعة يمكن أن يساهم فى الارتقاء بمستوى الأعمال الفنية وإثراء المشهد الثقافى فى مصر.
معضلة «المنتج الثقافى» و»السلعة»:
يقول صلاح منصور مدير عام مجموعة دور عرض سينمائى: الفن، بطبيعته، تعبير شخصي ورؤية فنية. لكن في صناعة التلفزيون، يتحول العمل الفنى إلى «منتج ثقافى» يخضع لاعتبارات السوق والمشاهدة وهذا يخلق توتراً بين التعبير الفنى الخالص ورغبة الفنان في تقديم رؤيته بغض النظر عن آراء الجمهور.
فإرضاء الجمهور هدف تجارى وضغوط من شركات الإنتاج والقنوات على الفنانين لتقديم أعمال تحظى بشعبية واسعة وتجذب الإعلانات، وعندما ينتقد الجمهور عملاً يراه الفنان تعبيراً صادقاً عن رؤيته، فيشعر بالإهانة أو التقليل من قيمة جهده الفني. بالمقابل، يرى الجمهور أن العمل «سلعة» مدفوعة الأجر، وبالتالى يحق له إبداء رأيه فيها بحرية تامة.
تضخم «الأنا النجمية»
يضيف المخرج عادل مراد أنه في بعض الأحيان، يساهم الإعلام والصورة النمطية للنجم في خلق توقعات غير واقعية لدى الجمهور حول شخصية الفنان وحياته وعندما ينتقد الجمهور شخصية النجم أو آرائه خارج نطاق العمل الفنى، فيشعر الفنان بأن هذا تجاوز لحدود النقد الفنى.
وخلط بعض الجمهور بين أداء الفنان لدور معين وشخصيته الحقيقية، مما يؤدي إلى انتقادات غير عادلة.
وقد يطول بعض الفنانين إحساس مبالغ بالأهمية أو الحصانة من النقد بسبب الشهرة والنجاح، مما يجعلهم أقل تقبلاً لأي شكل من أشكال الانتقاد.
ويؤكد الناقد الفني محمود قاسم إيمانه بشدة بأهمية النقد ودوره الحيوى فى تطوير الأعمال الفنية ورفع مستوى الذوق العام. فالنقد البناء هو بمثابة مرآة تعكس نقاط القوة والضعف فى العمل الفني، ويساعد الفنان على فهم تأثير ذلك على الجمهور واكتشاف جوانب قد لا يراها بنفسه. وقد يرى فى النقد ليس مجرد ترفيه أو وسيلة لتسجيل الآراء، بل أداة أساسية للارتقاء بالفن.
يشدد قاسم على ضرورة التمييز بين النقد الموضوعى الذى يستند إلى أسس فنية ومعايير واضحة، وبين التجريح الشخصي أو الانتقادات التى تنطلق من دوافع غير فنية أو تحيزات شخصية كأن يرى أن النقد الحقيقى يجب أن يركز على العمل الفنى نفسه »السيناريو، الإخراج، الأداء، إلخ« وليس على حياة الفنان الشخصية أو آرائه الخاصة.
يرى أن الجمهور له الحق الكامل في التعبير عن رأيه فى الأعمال الفنية التي يشاهدها، فهم في النهاية المستهلك لهذه الأعمال، لكنه يجب أن يكون هذا التعبير مسئولاً ومستنداً إلى فهم ولو بسيط لعناصر العمل الفنى، فالفنان ليس محصنا وليس بمنأى عن أى نقد، بل يعتبر تفاعل الجمهور جزءاً طبيعياً من العملية الفنية.
«النقد السطحى»
قاسم يرفض تجاه ما يراه «نقدًا سطحيًا» أو «انطباعات عابرة» تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي. لأن الكثير من هذه التعليقات تفتقر إلى العمق والتحليل الفنى، وتعتمد في الغالب على ردود فعل عاطفية أو أحكام متسرعة حتى لا تحول هذه المنصات إلى ساحة للتجريح والتشهير بدلاً من أن تكون فضاءً للحوار النقدى البناء.
وعلى الفنان مسئولية تقبل النقد، خاصة إذا كان بناءً ويهدف إلى التحسين فالفنان الحقيقي هو الذى يستفيد من النقد لتطوير أدواته ورؤيته الفنية وعليه تقبل النقد والتعامل معه بوعى.
لأن النقد البناء عنصر أساسى فى صحة المشهد الفنى، والجمهور له الحق فى التعبير عن رأيه بمسئولية
تأثير نفسى.
تقول د.ليلى عبد الحميد، أستاذة علم الاجتماع الإعلامى: «ما نشهده اليوم هو تحول في ديناميكية السلطة النقدية. ففى السابق، كان الناقد يمتلك سلطة معرفية ومؤسسية تمنحه شرعية في تقييم الأعمال الفنية، أما الآن، فقد تفتت هذه السلطة أمام سيل من الأصوات المتعددة على المنصات الرقمية هذا لا يعني بالضرورة أن كل هذه الأصوات متساوية في قيمتها أو تأثيرها، لكنه بالتأكيد يغير من طريقة تلقى الفنان للنقد وتأثيره عليه. فالنجم لم يعد يواجه رأياً واحداً أو مجموعة قليلة من الآراء المتخصصة، بل يواجه ‹ضوضاء› نقدية قد تكون ساحقة ومربكة.»
تضيف: «هناك أيضاً عامل ‹التفاعل الفورى› الذي يميز النقد الرقمى. فى الماضى، كان النقد يستغرق وقتاً للانتشار عبر وسائل الإعلام التقليدية، مما يمنح الفنان مساحة من الوقت لمعالجة الأمر. أما اليوم، فالتعليقات السلبية تنتشر بسرعة البرق، وقد يجد الفنان نفسه فى خضم عاصفة من الآراء فى لحظات قليلة. هذا الضغط الفوري يمكن أن يكون له تأثير نفسى مضاعف.»
تجربة عملية
تروى الممثلة القديرة رشا فؤاد تجربتها قائلة: «فى بداياتى، كنت أتأثر بشدة بأي تعليق سلبي يصلني على وسائل التواصل الاجتماعى. فأقضى ساعات في قراءة الردود ومحاولة فهم سبب هذا الانتقاد. فى بعض الأحيان، كانت الانتقادات بناءة بالفعل وتساعدنى على تطوير أدائى. لكن فى أحيان أخرى، كانت مجرد كلمات قاسية أو حتى مهينة لا علاقة لها بالعمل الفنى نفسه. هذا كان يؤثر على ثقتى بنفسى ويجعلنى أتردد فى تقديم أدوار جديدة.»
تضيف: «مع الوقت، تعلمت أن أضع حدوداً. لم أعد أقرأ كل التعليقات، وأركز أكثر على آراء المخرجين والمدربين الذين أثق في خبرتهم. أدركت أن إرضاء جميع الأذواق مستحيل، والأهم هو أن أكون صادقة فى عملي وأقدم أفضل ما لدى، النقد جزء من اللعبة، لكن يجب ألا نسمح له بأن يحبطنا أو يثنينا عن شغفنا.»
يقول المهندس محمد أنور، خبير في الإعلام الرقمى: يؤكد أن المنصات الرقمية غيرت قواعد اللعبة في كل شيء، بما فى ذلك النقد الفنى، ومنحت قوة هائلة للجمهور ليصبح ‹ناقداً› بشكل مباشر وفورى، هذه ‹الديمقراطية النقدية› تحمل في طياتها إيجابيات وسلبيات. من جهة، تتيح تفاعلاً أوسع مع الأعمال الفنية وتمنح الفنانين رؤى مباشرة لردود فعل الجمهور. ومن جهة أخرى، تخلق بيئة قد تكون غير منظمة ومليئة بالآراء غير المتخصصة أو حتى المسيئة.»
ويوضح أن التحدى يكمن في كيفية تطوير ‹ثقافة نقد رقميأكثر وعياً ومسؤولية. يجب على الجمهور أن يتعلم كيفية التعبير عن آرائه بشكل محترم وبناء، وعلى الفنانين أن يتعلموا كيفية التعامل مع هذا السيل من الآراء بمرونة وذكاء. فقد يكون من المفيد تطوير أدوات أو آليات على هذه المنصات لتنظيم عملية النقد وتمييز الآراء المتخصصة عن الانطباعات العابرة.»