فى أحد ميادين وسط القاهرة، نزلت سيدة أنيقة من سيارتها الفارهة ودخلت أحد محال الحلوى الشهيرة. استقبلها موظف أنيق، مال بطربوشه مبتسما، فطلبت منه 150 قطعة جاتوه على أن تستلمها بعد ساعة. وكان الرد: «تمام يا أفندم». دفعت الحساب: ثلاثون جنيها بالتمام والكمال.
هذا لم يكن حلما، بل مقطع من فيلم قديم أرسله لى أحد الأصدقاء من الشلة التى اعتادت اللقاء فى مقهى «كان» ـ مقهى العواجيز ـ حيث لا ينتهى الحديث فيه عن كل ما كان فى سالف العصر والأوان.
جيلنا لم يعرف الثلاجة أو البوتاجاز فى طفولته، وشاهد التليفزيون لأول مرة عام 1964، لكنه رأى شوارع وسط القاهرة تغسل بالماء والصابون فجر كل يوم، ورأى الجمال، والشياكة، والأدب فى كل مكان. جيل تمتع بعيشة هنية حضارية، لا يعرف شيئا عن «بهارات العكننة» ووجع الدماغ الذى صار ملازما لحياتنا اليومية.
لكن يبقى السؤال:هل الحنين إلى الماضى هو مجرد استرجاع لذكريات ممتعة؟ أم أنه هروب من واقع لم يعد يسر أو يبهج ـ هل نحن وحدنا ـ نحن المصريين ـ من يعيش هذه الحالة من النوستالجيا، أم أن ذلك شعوراً عاماً عالمياً؟وهل ما نملكه اليوم من وسائل رفاهية وتطور مذهل فى أسلوب الحياة غير كافٍ ليجعلنا نرى الماضى مجرد زمنٍ عابر؟ أم أن «الزمن الجميل» كان فعلا جميلا، ليس لأننا كنا أصغر سنا فقط، بل لأن القيم فيه كانت أكبر من الزمن نفسه؟
ما لا خلاف عليه، أن طبيعة الإنسان قد تغيرت فى كثير من المجتمعات. لم تعد البساطة وصفاء النفس والمشاعر الحنونة هى ما يسود العلاقات. بات الإنسان يهتم بنفسه أكثر كثيرا من اهتمامه بغيره.
التغير فى طبيعة البشر، وفى طريقة تعاملهم مع بعضهم البعض، ومدى تمسكهم بالقيم والمبادئ، يختلف من مجتمع إلى آخر، ويزداد حدة فى المجتمعات التى تضعف فيها الروابط بالتراث والتاريخ. هناك مجتمعات تمتد جذورها فى أعماق الزمن، يرتبط فيها الإنسان بوطنه وتراثه وثقافته، فينشأ أصيلا، صاحب مبدأ وخلق. أما المجتمعات «السطحية»، فغالبا ما تفرز أفرادا تحكمهم المصلحة، ويقودهم الطموح المجرد من القيمة.
الفلاح ـ بحكم قربه من الأرض ومن النبع الأصيل للإنسانية ـ يظل دائما أكثر التزاما بأصول التعامل الإنسانى الصادق.
والتعليم كذلك، هو من أهم العوامل التى تشكل ضمير الإنسان وتوجه سلوكه فى الحياة، وتحدد مدى التزامه بالقيم والتصرفات الحضارية.
الزمن لا يعود، لكن بإمكاننا استعادة شيء من روحه: فى تعاملاتنا، فى شوارعنا، فى طريقة كلامنا، وفى أسلوبنا فى الحياة.
ربما أصبحنا نحتاج لأكثر بكثير من ثلاثين جنيهًا لشراء 150 قطعة جاتوه، لكننا بحاجة ماسة أيضا إلى أن تعود نفوسنا كما كانت: أبسط، أنقي، وأكثر رضا.
ونحتاج كذلك إلى أن نمضى قدما فى دعم المبادرات الواعدة مثل «بداية»، التى أبهجتنا حين أُطلقت، واستبشرنا بها خيرا، لأنها تهدف فى الأساس إلى ترسيخ السلوكيات الحياتية الملتزمة والمتحضرة فى نفوس أولادنا وبناتنا منذ الصغر. نرجو لها مزيدا من النجاح، وأن يفهم الجميع هدفها الحقيقى ومغزاها النبيل وأن تستمر فى العمل من أجل تحقيق هذا الهدف.