عندما صدر القرار بإنشاء جهاز «الثقافة الجماهيرية»، كان الهدف والخطة والوظيفة الأساسية له الثقافة، نشرها وتكريسها وتثقيف الشعب على مختلف اتجاهاته ومستوياته التعليمية والبيئية، سواء فى المناطق الحضرية أو الريفية أو الساحلية.. وكان الهدف النهائى لهذا التنوع الإنسان المصرى فى مختلف مراحله العمرية.
مع بداية نشأة جهاز الثقافة الجماهيرية، كان العمل فيه يتسم بالجدية والتوازن، وكانت من أهم وظائفه الحفاظ على التراث بكل صنوفه وألوانه وأشكاله وموضوعاته، وكان يؤدى هذه الوظيفة على أكمل وجه.. وكان منبره يدور حول جوهر التنوير والاستنارة، ولعب الدور المحورى المنوط به، باعتباره خطّاً موازياً للمدرسة والجامعة.. لذا كان يُطلق عليه أحياناً «جامعة الشعب».
نعم، كان جهاز الثقافة الجماهيرية يعمل على قدم وساق طوال العام، وامتلك البنية الأساسية الفوقية والتحتيّة التى تُمكّنه من تقديم منتج ثقافى ذى قيمة وفاعلية، يلتف حوله الجمهور فى جميع محافظات مصر شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، حتى المحافظات الحدودية.. وكان يمتلك من الإمكانات ما يشمل أجهزة صوتية وسمعية، ودور عرض مسرحى وسينمائي، وقاعات كبري، ومراكز بحثية.
تعامل الجهاز مع التراث باحترام واحترافية، سواء فى الشكل الغنائى أو الفنون الشعبية أو المسرح الكلاسيكى والغنائى والشعبي.. كما كانت فرق الفنون الشعبية التابعة له تمثل مصر فى المحافل والمهرجانات الدولية.. وقد كان له دور فاعل على المستويات المحلية والعربية والدولية.. وأنا كاتب هذه السطور، كنت شاهد عيان ومشاركاً نقدياً وتأليفياً وإخراجياً فى مختلف مراحل ازدهار هذا الجهاز.
ظل الجهاز يعمل بكامل طاقته، ورغم أنه لم يكن يهدف إلى الربح المادي، فإنه كان يحقق ربحاً آخر بالغ الأهمية، بناء الإنسان عقلياً ووجدانياً، ليكون حاضراً ومشاركاً إيجابياً فى حراك الحياة.. وخلال سنوات طويلة، تخرّج من تحت مظلته مئات النجوم فى مجالات التأليف والإخراج والتمثيل، إلى جانب عدد كبير من الباحثين والأساتذة فى مختلف التخصصات.
مر الجهاز ببعض الفترات القليلة من التعثر، لكنه عرف الكثير من مراحل النمو والازدهار، خصوصاً فى عهد الراحل حسين مهران، الذى رغم بعض التحفظات على مرحلته، فإنه أحدث نقلة مهمة، حيث حوّل الجهاز إلى «هيئة قصور الثقافة»، وبعد رحيله وتعاقب عدد من الرؤساء، بدأ الجهاز يعانى من التراجع وتقزّم الدور، ومع ذلك استمرت بعض المواقع فى العمل بكفاءة وجدية، بينما ضعفت مواقع أخري، حتى أصبح الوضع يتطلب تدخلاً عاجلاً لإنقاذ هذا الكيان من غرفة الإنعاش، ليعود إلى ممارسة دوره الذى أُنشئ من أجله.
إن الهيئة- كما أؤكد دائماً- كيان قومى من الدرجة الأولي، بل هى فى جوهرها «أمن قومي» وسلاح فعّال فى مواجهة الانحرافات الفكرية والسلوكية، ومكافحة الإرهاب بكل صوره.. ولهذا يجب أن يكون الاستثمار فيها بعيداً عن الربح المادي، بل فى الإنسان ذاته، الإنسان المصرى الإيجابى المتفاعل مع قضايا وطنه.
نعم، الاستثمار الحقيقى يكون فى بناء الإنسان، وهذا يتحقق عبر الاهتمام بالمنتج الثقافى والفنى والإبداعي، ودعم حرية الإبداع، باعتبار ذلك دوراً قومياً.. كما ينبغى التوسع فى إنشاء المواقع الثقافية، وتخصيص أماكن- حتى أسفل الكباري- لبناء مسارح وسينمات ومكتبات، على غرار «ساقية الصاوي» بالزمالك. ويجب على المحافظات أن تُكلف بتوفير أو بناء هذه المواقع، لجذب الأطفال والشباب والأسر، بهدف التثقيف والترفيه ومكافحة كل أشكال الانحراف، من إرهاب ومخدرات وتحرش.. إلخ.
إن «الثقافة الجماهيرية» أو «هيئة قصور الثقافة»، وجودها- كما ذكرت مراراً- ضرورة قومية.. ويجب تفعيل دورها وزيادة ميزانياتها، ومراقبة جدية العمل بها.. نحن ضد الإغلاق لأى سبب كان، ومع التطوير الدائم، مع التأكيد على أهمية التراث والفنون الشعبية والمسرح.
أُذَكِّر هنا بمشروع «الأطلس» وأهمية إحيائه وحتمية العمل المتواصل من الجميع كمصريين للحفاظ على هذه الهيئة العريقة.. ويا ليت يعود اسمها القديم «الثقافة الجماهيرية»، فهو الاسم الأصدق والأشمل.. ولها نظيرات فى كثير من دول العالم، وأنا على ثقة فى جديتها.. والأهم، ثقتى الأكبر فى الإنسان المصري.