تأسست جماعة الإخوان الإرهابية فى مصر عام 1928 على يد حسن البنا، وقد جاء انطلاق الجماعة فى سياق ما بعد سقوط الخلافة العثمانية (1924) وتصاعد التيارات الاستعمارية، فطرحت نفسها كحركة تستلهم الدين للوصول إلى الحكم.
وقد سعى البنا عبر العمل الدعوى والاجتماعى إلى تجنيد نواة صلبة من الأفراد والكوادر الملتزمة التى يمكن أن تقود مشروع السطو على الحكم؛ فانتقلت من الإسماعيلية إلى القاهرة وانتشرت فى مختلف المحافظات خلال الثلاثينيات، ثم امتد تأثيرها إلى أجزاء واسعة من العالمين العربى والإسلامى خلال العقود التالية.. وبحلول منتصف القرن العشرين، تأسست فروع للإخوان فى عدة دول عربية (كالأردن وسوريا وفلسطين وغيرها) ونشأت شبكات تنظيمية عابرة للحدود تشارك الفكر ذاته.
رغم انطلاقها كجمعية دعوية وخيرية، انخرطت الجماعة مبكرًا فى العمل السياسى والعنف وأقامت جهازًا سريًا عسكريا (التنظيم الخاص) لتنفيذ أجندتها.. وقد أدى ذلك إلى صدامات عنيفة مع الدولة فى مصر؛ إذ أُدين الإخوان بالتورط فى عمليات اغتيال وتفجير خلال الأربعينيات، أبرزها اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى فى ديسمبر 1948 على يد عضو بالتنظيم الخاص للجماعة عقب قراره حلّ الإخوان.. دخلت الحركة بعدها طور العمل السرى تحت الأرض خلال حقبة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، خاصة بعد إدانتها بمحاولة اغتياله عام 1954 وحظرها مجددًا.
على الرغم من الضربات، استمرت الجماعة الإرهابية كمعارضة غير قانونية داخل مصر، وتجدد نشاطهم العلنى جزئيًا فى عهد الرئيس أنور السادات ثم الرئيس حسنى مبارك، مستفيدين من هامش تسامح نسبى مع عملهم الاجتماعى والدعوى. وخارج مصر، انتشرت أفكار الجماعة عبر فروعها الإقليمية التى تبنّت خطاب- الإسلام السياسى- ذاته.
الفشل السياسى وصدام المشروع الإخوانى مع الدولة
على الرغم من انتشارها وتمكنها من الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها بعدة دول، أثبتت تجربة الإخوان السياسية تعثرًا وفشلاً كبيرًا فى تحقيق الاستقرار أو كسب التأييد الشعبى المستدام. ففى مصر- المعقل التاريخى للجماعة- وصلت الجماعة الإرهابية إلى سدة الحكم عقب ثورة يناير 2011، عبر فوز ذراعها الحزبى (حزب الحرية والعدالة) بأغلبية البرلمان، ثم انتخاب القيادى الإخوانى محمد مرسى رئيسًا عام 2012.. بيد أن هذه التجربة القصيرة سرعان ما انتهت نهاية مأساوية؛ إذ أدى تفرد الإخوان بالسلطة وإقصاء الخصوم، وسعيهم للسيطرة على مفاصل الدولة بمنطق- التمكين-، إلى تأجيج المعارضة الشعبية ضدهم.. تعاملت قيادة الجماعة مع مؤسسات الدولة كغنائم ينبغى إخضاعها لمكتب الإرشاد بدلاً من اعتبارها مؤسسات وطنية محايدة، مما قوض ثقة الجمهور سريعًا. خلال عام واحد من حكم مرسى، تدهور الاقتصاد وتصاعد الاستقطاب الاجتماعى، وبرزت سياسات إخوانية اتسمت بالتمييز الأيديولوجى ضد مكونات المجتمع (خاصة النساء والأقباط)، دون تحقيق وعود النهضة المزعومة التى قطعتها الجماعة الإرهابية.
عند حلول ذكرى انتخاب الرئيس الإخوانى الأولى فى يونيو 2013، خرجت احتجاجات شعبية غير مسبوقة مطالبة بعزله، أيدها الجيش، فانتهت تجربة الإخوان فى الحكم بقيام الشعب بالإطاحة بالرئيس الإخوانى واعتقال قياداته، وإعلان حظر الجماعة الإرهابية فى مصر.. مثّل هذا الحدث ذروة الفشل السياسى للإخوان فى معقلهم، وتجسيدًا لانهيار مشروعهم عند اختباره فى إدارة الدولة.
تكرر نمط الإخفاق الإخوانى الإرهابى- ولكن بصور مختلفة- فى دول عربية أخرى.. ففى تونس مثلا، ورغم وصول حركة النهضة (المحسوبة فكريًا على الإخوان) إلى الحكم عقب ثورة 2011، اضطرّت إلى التنحى عن الحكومة فى 2013 تحت ضغط الشارع إثر اغتيالات سياسية وأزمات اقتصادية اتُّهمت بالعجز إزاءها. ومؤخرًا فى 2023-2021، قام الرئيس التونسى بتجميد ثم حلّ البرلمان الذى كانت النهضة أبرز كتله، وسط ترحيب شعبى ملموس، مما عكس تراجع ثقة التونسيين بالحركة. وكذلك فى الأردن، تعرض فرع الإخوان هناك (جبهة العمل الإسلامى) لتآكل كبير فى نفوذه أدى إلى حله قانونيًا عام 2020 ثم حظر نشاطه كليًا عام 2025.. وينطبق الأمر نفسه على ليبيا والسودان وغيرهما، حيث أخفقت الأحزاب المنبثقة عن الإخوان فى تقديم نماذج حكم مستقرة أو ناجحة، وانتهت إما بالإقصاء الشعبى أو التضييق القانونى. وتشير تقارير إلى أن التنظيم ككلّ «فقد الكثير من نفوذه فى العالم العربى» مؤخراً، وصار تركيزه ينتقل أكثر إلى المجتمعات الغربية حيث ينشط ضمن أطر مدنية هناك.. وبشكل عام، يعزو الباحثون هذا الفشل المتكرر إلى عوامل عدة، أبرزها: نزعة الجماعة الإرهابية للهيمنة والإقصاء عند وصولها للسلطة، وضع أيديولوجيتها الأممية فوق الاعتبارات الوطنية، وافتقارها لبرامج اقتصادية وتنموية حقيقية، وعدم قدرتها على بناء توافق سياسى واسع.
وهكذا اصطدم مشروع الإخوان بأولويات الدولة الوطنية الحديثة، فانقلبت قطاعات واسعة من الشعوب عليهم عندما تبيّن أن طرحهم لا يجلب الاستقرار أو التنمية الموعودة بقدر ما يعمّق الانقسام والتوتر الداخلى.
استغلال الدين وتوظيف الخطاب الدينى
اعتمدت جماعة الإخوان الإرهابية منذ نشأتها على تسخير الدين كوسيلة رئيسية لحشد التأييد الشعبى وتحقيق أهدافها السياسية. فقد قدّم الإخوان أنفسهم بوصفهم جماعة دعوية إصلاحية غايتها إعلاء شأن الإسلام، ورفعوا شعارات دينية جذابة لتعبئة الجماهير؛ من أشهرها شعارهم المؤسس:- الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا- من خلال هذا الشعار وضع الإخوان مرجعية عليا (شرع الله) فى مواجهة الدساتير والقوانين الوضعية، وأوهموا قطاعات واسعة بأن مشروعهم السياسى إنما هو فريضة دينية يجب مناصرتها. وفى الممارسة، دأبت أدبيات الجماعة على تصوير أى منافسة أو معارضة لبرنامجها كمعاداة للإسلام نفسه، مما مكّنها من استقطاب المتدينين البسطاء تحت راية الدفاع عن الدين. وقد أظهرت وقائع عديدة مدى براعة الإخوان فى التلاعب بالمشاعر الدينية للجمهور من أجل مكاسب دنيوية؛ فعلى سبيل المثال، خلال الانتخابات المصرية أواخر 2011 روّجت الجماعة وحلفاؤها السلفيون خطابًا يقول إن التصويت لهم- طريق إلى الجنة-، وأوهموا الناخبين بأن اختيار المرشحين الإسلاميين واجب شرعى لنصرة الدين.. وفى المقابل، صُمِّم خطابهم لوصم خصومهم السياسيين بالعلمانية أو الإلحاد أو- معاداة الشريعة-، لتعبئة الشارع ضد أى بديل منافس.
لكن هذا التوظيف البراجماتى للدين انكشف مع الزمن للكثيرين؛ فالجماعة التى ادّعت الزهد فى السلطة والنصح لله ورسوله ثبت أنها تنظيم سياسى عقائدى يسعى للهيمنة. يؤكد محللون أن الإخوان ليسوا مجرد جمعية وعظ وإرشاد كما يدّعون، بل تنظيم مغلق يتبنّى منهجًا لا يعترف بحدود الدولة الوطنية ويرى نفسه وصيًا على الدين والمجتمع . وتاريخ الجماعة الإرهابية حافل بالشعارات الدينية المضللة التى استغلت لاستقطاب الأنصار وتحقيق غايات تنظيمية ضيقة.. حتى مفهوم الشورى أو الديمقراطية تبناه الإخوان تكتيكيًا للوصول للحكم، ثم انقلبوا عليه فعليًا عند تمكنهم؛ فهم يؤمنون بأن- الحاكمية لله- وفق فهمهم الخاص، وبالتالى يضفون قدسية على قراراتهم السياسية ويصعبون التنازل عنها عبر الآليات الديمقراطية المعتادة. وقد لوحظ أن خطاب الجماعة عند تعرضها للأزمات يجنح إلى التركيز على مظلوميتها الدينية وتضحيات أعضائها- فى سبيل الله-، مما يعمق لدى أتباعها شعور الاصطفائية ويبرر لهم مخالفة الدولة والقانون بدعوى نصرة الإسلام.. هذا الخطاب المظلومى، المتمحور حول المحنة والتمكين الإلهى، أصبح سمة لازمة للإخوان عند تبرير فشلهم أو تراجعهم، إذ يعزون الإخفاق إلي- محاربة الإسلام- أو- فساد المجتمع- بدلاً من نقد الذات.. وبهذه الطريقة، يستمرون فى استثارة عواطف المتعاطفين واستقطاب العناصر الجديدة، مستغلين قدسية الدين كستار لأهدافهم السياسية.. ولا شك أن هذا النهج النفعى أضر كثيرًا بصورة الخطاب الدينى فى المجال العام، إذ جعل الكثيرين يتوجسون من توظيف المقدس لتحقيق مآرب دنيوية بعد تجارب الإخوان.
العنف وأزمة العلاقة مع التطرف
من المسائل المحورية فى تقييم تاريخ الإخوان الإرهابى هى صلتهم بالعنف السياسى والجماعات المتطرفة. فعلى الرغم من تأكيد الجماعة رسميًا انتهاج السلمية منذ عقود، إلا أن سجلها الفعلى يكشف تناقضًا بين المبدأ والممارسة. فعلى المستوى التاريخى، أنشأ الإخوان منذ الأربعينيات جناحًا عسكريًا سرّيًا نفّذ عمليات اغتيال وتفجير ضد مسئولين ومرافق حكومية فى مصر، وكان ذلك أحد أسباب الصدام الكبير بينهم وبين الدولة عام 1948 كما أسلفنا. وتكرر المشهد فى عقود لاحقة؛ إذ ارتبط اسم الإخوان بأعمال عنف مباشرة أو غير مباشرة كلما تعرض مشروعهم للتضييق.. فخلال الانتفاضة السورية أواخر السبعينيات، قاد فرع الإخوان فى سوريا تمردًا مسلحًا ضد نظام حافظ الأسد، انتهى بصدام دموى فى حماة عام 1982 أودى بحياة عشرات الآلاف.. ورغم اختلاف الملابسات، يكشف ذلك الاستعداد للجوء إلى القوة عند انسداد الأفق السياسى.
اختيار العنف يطفو مجددًا
وبعد عام 2013، طفا إلى السطح مجددًا خيار العنف داخل الصف الإخوانى فى مصر؛ فمع إطاحة حكم مرسى واعتقال قياداته، ظهر العنف الإخوانى على حقيقته وأعلنوا مواجهة الدولة بالقوة بحجة استعادة الحكم الشرعى بزعمهم.. وبقيادة عضو مكتب الإرشاد محمد كمال، شُكّلت خلايا نوعية تبنّت عمليات استهداف ضد قوات الأمن والمنشآت الحيوية بين 2014 و2016، فيما اعتُبر إعلانًا ضمنيًا بفشل منهج اللاعنف الذى ادعته الجماعة الإرهابية.. وقد أصدر هذا الجناح المتطرف أدبيات تبرر شرعيًا الانتقام من النظام المصرى واعتباره- طاغوتًا- يجب قتاله، زاعمًا أن بيعة مرسى لا تزال فى أعناق المسلمين وأن إسقاط حكم السيسى- واجب شرعي- وعلى الرغم من إنكار القيادة الإخوانية الإرهابية فى العلن صلة الجماعة بتلك العمليات، فإن المؤشرات والدلائل أظهرت وجود دعم داخلى لها داخل الجماعة.
إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال العنف غير المباشر المرتبط بفكر الإخوان الإرهابى. فقد خرج من رحم المدرسة الإخوانية عدد من رموز التطرف العنيف فى العالم الإسلامى؛ إذ تعتبر أدبيات سيد قطب- أحد منظرى الإخوان- مرجعية أساسية لكثير من جماعات الجهادية التكفيرية كتنظيم القاعدة وفروعه.. ورغم أن الإخوان كتنظيم لا يتبنى أجندة هذه الجماعات صراحة، فإن المناخ الفكرى الذى أنتجته- والقائم على تكفير النظم الحاكمة وشيطنة الدولة الحديثة- أسهم فى تعبيد الطريق أمام ظهور حركات أكثر تشددًا مثل القاعدة وداعش وغيرهما.
هذه المعطيات أعطت مبررًا قويًا لعدة دول لتصنف الجماعة كيانًا إرهابيًا؛ فإلى جانب مصر، اعتبرت كل من السعودية والإمارات وروسيا وغيرها الإخوان منظمة إرهابية تحظر أنشطتها، وفى عام 2020 صنّفت محكمة فى الأردن الجماعة كـ«غير مشروعة» وصولاً إلى حظرها بالكامل عام 2025.. ويبرر هؤلاء هذا التصنيف بأن الإخوان «جماعة إرهابية خطيرة» كانت مصدر تطرف يهدد استقرار المجتمعات.. فى المقابل، ظلت قيادة الإخوان تعلن رسميًا نبذ العنف منذ حقبة السبعينيات، مؤكدةً اشتغالها بالعمل السياسى السلمى.. بيد أن هذا الإعلان لم يحل دون اتهامها مرارًا بتغذية العنف من وراء ستار، إما عبر خطاب الكراهية والتأجيج أو من خلال غض الطرف عن أجنحة شبابية خرجت من تحت عباءتها لتنتهج الإرهاب.. وهكذا، تعانى الجماعة من أزمة مصداقية حادة فيما يتعلق بالعنف؛ فهى تسعى لتقديم نفسها كحركة إصلاحية معتدلة، فى حين يرى الغالبية الساحقة أنها تحمل بذور التطرف فى بنيتها الفكرية والتنظيمية، وأن نهجها المزدوج يضفى المشروعية على العنف حين يخدم مصالحها.
موقف الإخوان من الدولة الوطنية الحديثة
يتجذر فى عقيدة الجماعة الإرهابية تصورٌ يتعارض فى جوهره مع فكرة الدولة الوطنية (القُطرية) بحدودها السيادية ونظامها المدنى الحديث.. فمنذ الرسائل التأسيسية لحسن البنا، كان مشروع الإخوان عابرًا للأوطان؛ حيث دعا إلى إحياء- أممية إسلامية- واحدة، وأكّد أن ولاء المسلم يجب أن يكون لدينه وأمّته الإسلامية قبل وطنه القومى. لهذا لا يؤمن الإخوان صراحةً بمفهوم القومية الوطنية التى تقوم عليها دول الشرق الأوسط المعاصرة، بل يرون أنفسهم جزءًا من مشروع أممى يتجاوز الجغرافيا والسيادة.. وقد أثبت تاريخهم أنهم يقدمون الولاء للتنظيم العالمى للجماعة على الولاء للدولة التى ينشطون فيها، الأمر الذى أثار شكوك الحكومات تجاههم باستمرار.. ولعل واحدًا من أبرز شعارات الجماعة يعكس هذا التوجّه بجلاء:- فلسنا قوميين، لأن حدود الوطن عندنا العقيدة- أى أن وطن المسلم فى عقيدة الإخوان هو الإسلام وليس حدود الدولة المرسومة على الخريطة.
ترتب على هذا الفكر تصادم مزمن بين الإخوان وفكرة الدولة الوطنية.. فالجماعة تنظر إلى الدولة القائمة- بحدودها ودستورها وقوانينها الوضعية- نظرة المؤقت أو المرحلة التى ينبغى تطويعها أو حتى إزالتها لصالح- دولة الخلافة- المنشودة فى أدبياتها.. ولذلك لم يتوان الإخوان عبر تاريخهم عن محاولة اختراق مؤسسات الدول التى عملوا ضمنها وبناء تنظيم سرى موازٍ يتغلغل فى مفاصلها على أمل الاستيلاء عليها من الداخل.. وقد كشف أحد قياداتهم مبكرًا- وهو يوسف القرضاوي- هذه الرؤية بقوله:- الوطن عند الإخوان ليس التراب والمساحة الجغرافية، بل هو العقيدة؛ فحدود الوطن الإسلامى تمتد لتشمل كل أرض يقام فيها حكم الله- من هذا المنطلق، لم يعترف الإخوان فعليًا بشرعية كثير من الأنظمة والدول الوطنية التى نشأت بعد الاستعمار، واعتبروها- صناعة غربية- يجب العمل على تغييرها بالطرق المتاحة.. وعندما شاركوا فى العملية السياسية لضرورة الواقع، غالبًا ما فعلوا ذلك تكتيكيًا مع احتفاظهم بأجندة- عابرة للحدود- وقد أكدت الوقائع أن الإخوان يمارسون ما يوصف بـالتقيّة السياسية؛ فيظهرون قبول الدولة الوطنية وقوانينها حين يكونون ضعفاء، ثم ينقلبون عليها عندما يشتد عودهم.. هذا ما حذر منه مثقفون كثيرون مشيرين إلى تجارب الإخوان فى مصر وغيرها، حيث بدا أنهم يوظفون خطاب المشاركة والتعددية كغطاء مرحلى إلى أن يتمكنوا من مفاصل الحكم. فلا عجب إذن أن يُنظر لهم كخطر أمنى داخلى؛ فالجماعة الإرهابية «مشروع تفكيكى بامتياز.. لا ينتمى لعالم السياسة الطبيعية بقدر ما ينتمى لمدارس الفوضى الخلاّقة» الساعية لهدم الدول من الداخل وإعادة تشكيلها وفق أيديولوجيتها الخاصة.
التهديد الكامن للشعوب والأوطان
على الرغم من الضربات التنظيمية القاسية التى تعرضت لها جماعة الإخوان الإرهابية منذ عام 2013، إلا أنها لا تزال تُشكّل تهديدًا كامنًا للشعوب والأوطان فالتجربة أثبتت قدرة الجماعة على تغيير تكتيكاتها والتلون حسب الظرف؛ إذ سرعان ما استعادت أساليب العمل السرى بعد الضربات الأمنية، حيث يؤكد خبراء أنها كجماعة سرية مغلقة تستطيع إعادة ترتيب صفوفها بسرعة وفعالية فى مواجهة الحملات الأمنية.. وقد عمدت الجماعة إلى التخفى داخل المجتمع المدنى والعمل عبر واجهات أهلية وإعلامية خارجية بعد حظرها؛ فتوسعت فى نشاط الجمعيات الخيرية ومنظمات الإغاثة فى الداخل والخارج، لا سيما فى الملاذات التى انتقلت إليها عقب سقوط حكمها عام 2013.. ومن خلال هذه الواجهات المدنية والساحات الإعلامية البديلة، تمكنت الجماعة من مواصلة نشر خطابها واستغلال الأزمات السياسية لبثّ الفوضى وتعزيز حضورها. فهى بارعة فى استثمار التحولات والأزمات؛ إذ إنها «لا تزدهر إلا فى مناخ الأزمات»، متخذة من شعارات المعارضة وحقوق الإنسان أقنعة مرحلية.. كما حافظت على خطابٍ مظلومى يصوّرها فى هيئة الضحية المضطهدة، مستدرّةً بذلك تعاطف قطاعات من العامة؛ حيث بات خطابها الراهن موسومًا بـ»هيمنة المحنة والتضحية والرعاية الإلهية»، مما يسمح لها بتبرير إخفاقاتها بإلقاء اللوم على الظروف الخارجية واستدرار التعاطف الشعبى.. ولا يزال التنظيم يوظّف المرجعية الدينية فى خطابه لإيهام عموم المسلمين بأنه المدافع عن الدين، مع إبراز مظلوميته لضمان التعاطف.. وقد حذّرت تقارير حديثة من أن خطر الإخوان- وإن كان بعيد المدى ولا يتخذ صورة عنف مباشر- يتمثل فى التآكل التدريجى لقيم المجتمعات من الداخل عبر إستراتيجية- التسلل الناعم- وتقويض التماسك الوطنى؛ إذ تتمتع الجماعة بشبكات تمويل وتنظيم تُمكّنها من التأثير عبر مؤسسات إعلامية وخيرية واجتماعية ورياضية بديلة.. لذلك، وبرغم تفككها التنظيمى، تبقى الجماعة مصدر تهديد محتمل باستطاعتها إعادة إنتاج نفسها ضمن كيانات بديلة والعمل تحت الأرض للحفاظ على مشروعها.
خاتمة
فى المحصلة، أدّت مواقف الإخوان المناهضة لمنطق الدولة الوطنية إلى تشديد التعامل الرسمى معهم فى معظم البلدان العربية. فمع كل أزمة كان خيار السلطات فى الغالب هو استئصال التنظيم أو تقليم أظافره حفاظًا على كيان الدولة.. وقد بات من المسلّم به فى أوساط النخب الحاكمة إقليميًا أن مشروع الإخوان الإرهابية العابر للحدود يتنافى مع مبدأ السيادة الوطنية ويهدد بفوضى إقليمية عارمة إذا تُرك دون رادع.. من جهة أخرى، يعتقد كثير من الباحثين أن تصحيح خلل العلاقة مع فكر الإخوان الإرهابية يستلزم معالجة جذور المشكلة بتنمية دولة المواطنة الحديثة العادلة؛ فكلما تعززت شرعية الدولة الوطنية القائمة على حكم القانون والمساواة بين المواطنين، انحسرت قدرة الجماعات ذات الأجندة العابرة- كالإخوان- على اختراق المجتمع.. وقد أكدت التجربة المصرية فى السنوات الأخيرة هذه الخلاصة؛ إذ نجحت الدولة عبر ترسيخ مؤسساتها الوطنية ومباشرة مشاريع تنموية شاملة، فى تجفيف الكثير من المنابع التى كان الإخوان يتسللون عبرها لنشر أفكارهم.. وبناءً على ذلك، يرى المراقبون أن احتواء ظاهرة الإخوان الإرهابية يحتاج إلى مزيج من الحسم الأمنى والتوعية الفكرية: تفكيك الشبكات التنظيمية غير القانونية بالتعاون الإقليمى، وفى الوقت نفسه ملء الفراغ الاجتماعى والثقافى بتنمية حقيقية تعزز انتماء الفرد لوطنه بدل الانخداع بدعاوى الأممية الأيديولوجية.
إن مشروع الإخوان الإرهابى- بعد نحو قرن على نشأته- أثبت عجزه عن التكيف مع منطق الدولة الحديثة، بل مثل فى حالات كثيرة معول هدم لها. ومن ثمَّ فإن تعزيز مناعة الأوطان أمام هذا المشروع الفكرى المتطرف بات ضرورةً يتشارك فيها صناع القرار والمثقفون ومؤسسات المجتمع المدنى على حد سواء.. فقط عبر هذه المقاربة الشاملة يمكن تحصين الدولة الوطنية وضمان ألا تتكرر أخطاء الماضى التى أتاحت للجماعة الإرهابية وأمثالهم اختطاف المجتمعات تحت ستار الدين.