ما إن يلوح فى الأفق هلال شهر ذى الحجة حتى تتغير الوجوه وتشرق القلوب، وتتحول المساجد إلى خلايا نحل ذاكرة وراكعة وساجدة، إنها ليست مجرد أيامٍ تُضاف إلى رصيد العمر، بل هى نفحات ربانية لطالبى المغفرة ونيل القرب من الله، فإذا كانت شهور العام كفصول الزرع، فإن هذه الأيام العشرة هى موسم الحصاد، حيث تتضاعف الحسنات، وتُفتح أبواب السماء، وتُهيأ النفوس لتلقى أرفع الدرجات.
وتلك العشر لها مكانة عظيمة فى ميزان الشرع، فقد أقسم الله جل وعلا بها فى كتابه الكريم، وهذا القسم بحد ذاته يكفيها شرفًا وعلوًا، فالله لا يقسم إلا بعظيم: «وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ» الفجر : 1- 2 إنها الليالى المباركة من ذى الحجة، التى تتجلى فيها عظمة الخالق، ويُعرض فيها على عباده أبواب الخيرات مشرعة، ليلجوا منها إلى ساحات الرضوان.
وإذا كانت «العشر» ذُكرت فى القرآن قسمًا، فقد جاءت السنة النبوية المطهرة لتفصّل لنا فضلها وتوضح عظيم شأنها، ففى الحديث الذى رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر».. قالوا: ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد فى سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».. تأملوا هذا التفضيل النبوى العظيم! لقد قُدِّم العمل الصالح فى هذه الأيام على الجهاد فى سبيل الله، وهو ذروة سنام الإسلام، إلا فى حالة الاستشهاد التام، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على سمو منزلة هذه الأيام، وأنها فرصة لا تعوض للمتزودين للآخرة.
وفى هذه الأيام، أمامك كنز من الأعمال الصالحة، حيث تتنوع أبواب البر وتتسع ميادين الخير، فليس هناك عمل صالح إلا ويكون له فى هذه الأيام حظ وافر ونصيب كبير من القبول والفضل ومن أبرز هذه الأعمال:
> الصيام، وخاصة صيام يوم عرفة لغير الحاج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفّر السنة التى قبله والسنة التى بعده» «رواه مسلم» .
> الإكثار من الذكر: بالتكبير والتهليل والتحميد.. إنها أيامٌ تُطلق فيها الألسنة بذكر الله، وتُشحذ فيها الهمم لتعظيم الخالق، فتنبعث الطمأنينة فى القلوب.
> قراءة القرآن: فكتاب الله ربيع القلوب ونور الدروب، وقراءته فى هذه الأيام تزيد الأجر وتضاعف الثواب.
> الصدقة: ففيها إحياء لسنة البذل والعطاء، ومد يد العون للمحتاجين، وفيها تطهير للمال وزكاة للنفس.. إنها دعوة للتشمير للمؤمنين.. فهذه الأيام العشر هى فرصة العمر، قد لا تتكرر لنا مرة أخري، فالعمر ساعات، والساعات تمضي، والأنفاس تُعد، فهل من مشمر للخيرات؟ هل من ساعٍ للمغفرة؟ هل من طالب للقرب؟
تذكروا أن الأيام لا تعود، والفرص لا تُعاد، اغتنموها فى طاعة، فى ذكر، فى صدقة، فى صيام، فى صلة رحم، فى كل عمل يرضى الله، اجعلوا منها محطة للتغيير، ومنطلقًا لحياة أفضل، ففيها تُغفر الذنوب، وتُرفع الدرجات، وتُستجاب الدعوات.