زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، فى أولى جولاته الخارجية بعد توليه فترة رئاسية ثانية، ليست مجرد تحرك سياسى دبلوماسى اعتيادى أو جولة استثمارية بحتة كما قد تقدم، بل هى لحظة سياسية فارقة تحمل دلالات كبري، سواء فى مسارات التوازنات الإقليمية أو فى مستقبل الدور الأمريكى فى الصراعات المستعمرة فى المنطقة، وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية على غزة.
لكن الحدث الأكثر إثارة فى هذه الجولة ليس جدول أعمال ترامب فى الرياض أو أبوظبى والدوحة، بل ما لم يتضمنه هذا الجدول: عدم زيارة إسرائيل. هذا القرار، وإن لم يصرح بأسبابه رسمياً، يعبر عن فتور حقيقى فى العلاقات بين واشنطن وتل أبيب فى لحظة بالغة الحساسية، ويعكس مدى تعقيد الموقف الأمريكى من الحرب الدامية التى تخوضها إسرائيل فى غزة، والتى أدت إلى واحدة من أسواء الأزمات الإنسانية فى العقدالأخير.
إن امتناع ترامب عن زيارة إسرائيل ليس قراراً بروتوكولياً، بل سياسى بامتياز، فإسرائيل اليوم تواجه انتقادات دولية متصاعدة على خلفية ما يصفه مراقبون ونشطاء بأنه مشروع تهجير قسرى واسع النطاق، وسط حديث صريح داخل بعض الأوساط الإسرائيلية عن «تطهير غزة» فى المقابل، فإن جلوس ترامب إلى قادة الخليج دون المرور بتل أبيب يرسل إشارة واضحة: هناك إعادة تموضع أمريكى محتمل، وهناك فرصة للعرب إن أرادوا استغلالها.
على مدار العقود الماضية، كثيراً ما أضاع العرب فرص التأثير فى السياسات الأمريكية بسبب غياب الرؤية الموحدة، أو الارتهان للحسابات الضيقة، أما اليوم، فالمشهد مختلف: لدينا رئيس أمريكى ينظر إلى المنطقة بعين رجل الأعمال، أكثر مما ينظر إليها من منظور أيديولوجى أو تحالفى جامد، ترامب لا يخفى أن هدفه هو «عقد صفقات» وتحقيق مكاسب ملموسة، وهذا بالضبط ما يجعل الفرصة سانحة.
ما تحتاجه العواصم العربية الآن، هو الذهاب إلى الطاولة برؤية موحدة ومطالب واضحة: وقف الحرب على غزة، وقف سياسات الاستيطان والتهجير، وإعادة الاعتبار لحل سياسى عادل وشامل، ويجب ألا يكون ذلك من منطلق الاستعطاف أو التوسل، بل من منطلق واقعي: الاستقرار فى المنطقة هو شرط مسبق لأى استثمار ناجح، وأى انفجار جديد فى غزة أو اليمن أو لبنان سيفجر معه كل أحلام الربح والصفقات.
إن جلوس ترامب فى الخليج دون المرور بإسرائيل بينما تغيب صورته المعتادة وهو يتوسط بين الزعماء فى القدس، قدى يكون بداية جديدة. ليست بالضرورة بداية قطيعة، ولكن بداية مراجعة للسياسات الأمريكية التى لطالما انحازت لإسرائيل دون قيد أو شرط، ومراجعة للخطاب العربى الذى لطالما افتقد إلى الحزم والوضوح.
فى النهاية، ترامب ليس صديقاً للعرب، لكنه أيضاً ليس عدوًا بالمطلق. هو سياسى إذا لمس الجدية والوضوح والمكاسب، استجاب. وإن لمس التردد والفرقة، أدار وجهه إلى حيث تعقد الصفقة الأكبر.
إنها فرصة حقيقية، لكنها كما كل الفرص، لا تنتظر أحداً، فهل يلتقطها العرب؟