«هل يصمد العالم أمام الغموض الاستفزازى وطعنة حركة العولمة وفقدان العدالة الاقتصادية التى أفسدتها السياسة والصراعات الجيوسياسية والرسوم الانتقامية» وهل تصمد الدول فى وجه العاصفة فى الفترة القادمة؟ هذا هو السؤال المهم الآن.. لقد تم إعادة رسم خريطة جديدة للعالم خصوصا على خلفية انخفاض أسعار النفط وارتباطه بمؤشر داون جونز والخسائر التى منيت بها بورصات الخليج مع تسونامى الرسوم الجمركية، حتما العالم ينتظر أى بارقة أمل من اجتماعات المؤسسات المالية فى واشنطن وهما أكبر مؤسستين دوليتين يسيران الأمور المالية عالميا وهما صندوق النقد الدولى والبنك الدولى حيث يجتمعون من 21/4 حتى 26/4 من الشهر الحالى فى ظل مشهد غير مسبوق من التشتت والتضخم وأسعار الفائدة وانخفاض النمو والديون وفوائدها بالإضافة إلى غمض العين قصدا عما يحدث.
منظمة التجارة العالمية تتوقع حجم انكماش للاقتصاد العالمى فى الأمد الطويل حوالى 7 ٪ وانخفاض حجم التجارة العالمية بنسبة 2.3 ٪ وهو ما يمثل خطا على طريق الركود وهو ما يفرض التساؤل.. ما الخيارات الواقعية أمام المؤسسات المالية الدولية؟
يقول رئيس الفيدرالى الأمريكى فى آخر تصريحاته انه من الصعب السيطرة على التضخم وسوق العمل وتراجع النمو وقد تكون آثار التضخم أكثر ديمومة.
> ونقول نحن هل هو اختبار للولاء وسط صراع أكبر اقتصادين فى العالم؟
لقد اجتمع محافظو البنك وصندوق النقد الدوليين فى واشنطن فى لقاء الربيع قبل اجتماع الخريف وأمامهم فرصة تاريخية لمعالجة الأزمات العالمية المتتالية والمتمثلة فى التوقعات الاقتصادية العالمية والقضاء على الفقر وإعادة هيكلة الديون العالمية والتنمية الاقتصادية وفعالية المساعدات وتمهيد الطريق إلى المستقبل وبناء القدرة على الصمود وإعادة تشكيل التنمية والتغلب على الديون وكيفية تحقيق النمو والحكم بفاعلية فى الأوقات العصيبة التى يمر بها العالم وتسريع وتيرة التنمية فى عصر الأزمة العالمية وتمكين النساء وكيفية تحفيز قوة رأس المال الخاص فى التنمية المستدامة وكيفية تحفيز سلاسل الإمداد المستدامة والشاملة والاستثمار فى رأس المال البشرى لتسريع وتيرة التمويل الأخضر.
وكان من المنتظر أن يستعيدوا الثقة فى الاقتصاد العالمى من خلال تحديد مستوى عال من الطموح للمؤسسات المالية الدولية وذلك لتفعيل عملها فى معالجة بعض أكبر التحديات التى يواجهها العالم.
وهذا يجعلنا نتحدث أولاً عن تصريحات المسئولين فى البنك والصندوق عن التمويلات وأهميتها وجدواها بعد كل هذه المناقشات فى ربيعهم المفتوح، هذا كان حديث الفايننشال تايمز أيضاً فإن التحديات العالمية ملحة وخطيرة وشديدة التعقيد والتمويل الخارجى السنوى والذى يبلغ تريليون دولار للبلدان النامية.. من المفروض أن يساعد هذه الدول على حماية شعوبها من التأثيرات المناخية المتزايدة وتحويل اقتصاداتها إلى اقتصاد فاعل، فهل هذا حدث بالفعل اننا نوجه السؤال فقط لمسئولى البنك والصندوق ونقول لهم.. ان تعهداتكم لهذه الشعوب والتى أعلن عنها فى 2009 كانت 100 مليار دولار فى السنة لم يتم الوفاء بها حتى الآن بالإضافة إلى أن 60 ٪ من الدول الناشئة النامية ومخفضة الدخل تعانى «ضوائق مالية» أو هى قريبة منها فى حين انهم جروا العالم إلى هذه الحرب الهجينة وعرضوه لصدمات اقتصادية بسبب هذه الحرب والوباء الذى لا يعرف أحد من أين أتى ومن هو المسئول عنه وعن تداعياته التى جعلت الدول فى حالة من عدم المساواة وهناك ما يقرب من 100 مليون شخص يعيشون فقرا مدقعا حول العالم أكثر مما كانوا عليه قبل الوباء.
> إن العالم بمؤسساته المالية يحتاج حجما هائلا ونقلة نوعية فى حجم التمويلات والاستجابة السريعة لمعاناة الدول النامية وتحفيز رأس المال الخاص للاستثمار فى البلدان ويرى خبراء المؤسسات المالية ان الدول الناشئة تحتاج زيادة الدعم المالى بينما الدول الكبرى لا تهتم وتغمض عينيها قاصدة بعدم تخصيص أموال كافية لحل المشكلات التى تسببت فيها جزئيا.
وبالنظر إلى الاجتماع الربيعى كمحللين للواقع الاقتصادى فى هذا الشأن الخاص بالمساعدات أو التمويلات نرى ان مسئولى البنك والصندوق لم يقدموا حلولا واضحة بل انهم غير راغبين فى الابتكار على نطاق واسع فالعالم فى حاجة إلى مزيد من إقراض المؤسسات المالية الدولية مع حماية الفقراء ويجب عليهم قبل اجتماعهم المقبل أن يجدوا حلولا لتوفير مزيد من التمويل الميسر والاستثمار الخاص والاستخدام الابداعى لحقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولى «لخفض أسعار الفائدة».
نمو الاقتصاد العالمى
لقد عدل الصندوق فى مطلع هذا العام توقعاته للنمو الاقتصادى وكان متفائلاً بشأن نمو الناتج المحلى إلى 3 ٪ بدلاً من 2 ٪ ولكن حال العالم لا ينم على ذلك إلا إذا قام المجتمعون بدورهم فعلاً، فلابد من عودة الثقة عالميا أولاً فى إمكانية التوسط فى صفقة طموحة للمؤسسات الدولية لمحاولة «ترميم العالم».
ان مشاركة المؤسسات الدولية المالية فى ضخ مزيد من الاستثمارات وخلق حالة من المسئولية للمؤسسات متعددة الأطراف وتهدئة حالة المنافسة بين القوى العظمى أكثر من ذلك وأن يتم الاتفاق على حزم تمويلية لتهدئة وتلبية مخاوف جميع البلدان لحل المشكلات الاقتصادية العالمية التى يحتاج إليها العالم أكثر من أى وقت مضى وأن تكون هناك الإرادة السياسية لتوسيع نطاقها بشكل كبير وإلا تحولت الاجتماعات سواء ربيعية أو شتوية إلى «مكلمة لأصحاب الياقات البيضاء».
وبالرغم من اضطراب المصارف الأمريكية والدعم المالى القوى لهذه المصارف من الفيدرالى إلا ان العالم ومؤسساته تنظر بعين الاعتبار إلى بيانات التضخم الأمريكية فقط على حساب بقية دول العالم وتشير رسائل صانعى السياسة النقدية فى الاقتصادات الرئيسية إلى أن معدلات التضخم وان ظلت مرتفعة ستأخذ فى الانخفاض بداية من النصف الثانى من هذا العام وبالتالى لن تكون البنوك المركزية مضطرة للاستمرار فى رفع سعر الفائدة بل ان الأسواق بدأت تتوقع أن تخفض البنوك نسب الفائدة فى الربع الأخير من العام المالى لتخفيف وطأة ارتفاع كلفة الاقتراض فى ظل الضغوط الائتمانية الناجمة عن أزمة القطاع المصرفى ولكن هذه التوقعات التى يبنى عليها المجتمعون قراراتهم قد لا تتحقق فقد أثبتت المراحل الماضية ان «النتائج عكس التوقعات» حتى لو كان أصحابها الفيدرالى الأمريكى أو المؤسسات المالية الدولية.
> وهنا يبرز سؤال مهم.. هل يصلح الاقتصاد والسياسات النقدية والمالية ما أفسدته السياسة؟
والإجابة عن هذا السؤال فى غاية الصعوبة فمن الواضح ان اجتماع الربيع للمؤسسات المالية يتسم «بالتشتت».. فالتحديات التى تواجه الاقتصاد العالمى كبيرة فحتى اتجاهات التجارة الدولية قد تغيرت ولابد لكل دول العالم أن يكون لديها حالة من الحذر الدائم فالاقتصاديون يستطيعون شرح سلوك أى شيء فى الاقتصاد ولكن أى اقتصادى فى العالم لا يستطيع تفسير ما يحدث فى العالم من صراعات.
فصندوق النقد الدولى لا شك يلعب دورا فى رسم ملامح السياسات الاقتصادية التى تطبقها البلدان المرتبطة معه ببرامج مشتركة إذ ان بنية الاقتصاد العالمى السائدة حاليا منحت الصندوق «المفتاح السحرى» الذى من خلاله تستطيع حكومات الدول التى تعانى اقتصاداتها من مشكلات تهدد استقرارها الحصول على قروض تنموية من مؤسسات التمويل الدولية المختلفة أو الفنية أو حتى القطاع المصرفى العالمى الذى يمتلك فوائض مالية كبيرة وبحاجة إلى أسواق للعمل فيها بأدوات تمويلية مبتكرة ومختلفة.
المفتاح السحرى
لاشك ان المؤسسات المالية المجتمعية بواشنطن تعلم جيدا انه بدون شهادة صادرة من صندوق النقد الدولى تفيد بأن هذا البلد أو ذلك يقوم بتطبيق سياسات اقتصادية تتفق مع فلسفته فإن أبواب غالبية مصادر التمويل الخارجية الموجودة فى هذا العالم ستكون مغلقة أمام هذه الحكومات للحصول على تمويل يغطى عجز موازناتها أو الحسابات الجارية لموازين المدفوعات وهذا يعرضها لمخاطر مالية واقتصادية لا تعرف مداها.
لذلك لابد أن تعدل المؤسسات المالية سياساتها التوسعية لأنها أوقعت العديد من الدول فى ضوائق مالية بدلاً أن تكون حلا للدول أو أن تأتى بالخير كى تنجو الدول من مناورة ترامب التجارية باقتصاد العالم.
إعادة هيكلة الديون العالمية
عوداً على بدء يمكن القول بأن المشكلات المجدولة فى اجتماع الربيع هى مشكلة الديون العالمية خصوصا ان توقعاتهم تشير إلى زيادة الديون الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية والصين فى المرحلة القادمة إلى أكثر من 136 ٪ من الناتج المحلى لأمريكا و130 ٪ من الناتج المحلى للصين مع خفض توقعات النمو العالمى ومخاوف الصندوق الذى يقول ان الديون العالمية سوف تتفاقم إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف الناتج المحلى الإجمالى ويرى «الخبراء الوازنين» ان سياسات الصندوق المعمول بها لا تمتلك أى حلول فعلية لوقف التدهور فى هذه المشكلة وتضع مجمل الاقتصاد العالمى على صفيح ساخن وتجعله معرضا للانفجار فى أى وقت .
مؤسسات التمويل
هناك مطالبات كثيرة من الدول بضرورة إجراء تعديلات على سياسات مؤسسة التمويل التابعة للبنك الدولى بهدف انصاف المتضررين من المجتمعات المحلية جراء الاضرار التى تعرضوا لها خلال تنفيذ المشاريع الممولة من قبلها بالإضافة إلى التساؤلات المطروحة حول مدى نجاح السياسات التقشفية التى يعرضها صندوق النقد لمساعدة الدول للخروج من مآزقها المالية والاقتصادية مثل عجز الموازنان العامة والحسابات الجارية والدين العام وعلى اقتصادات الناس والمستويات المعيشية للغالبية الكبيرة منهم وكذلك مساهمة هذه السياسات فى تحفيز الاقتصادات على النمو الشمولى فهناك العديد من الأمثلة خاصة منطقتنا العربية لم تسهم فيها هذه السياسات فى تجاوز هذه التحديات المالية والاقتصادية بعد تطبيق العديد من البرامج المشتركة على الصندوق.
قضية العدالة التصويتية
من الموضوعات التى ستتم مناقشتها اصلاح حوكمة صندوق النقد والبنك الدوليين لأن «القوى التصويتية» غير عادلة حيث يمتلك عددا محدودا جدا من الدول الأغلبية التصويتية على حساب العدد الأكبر من الدول والتى تعكس عدم عدالة النظام العالمى العائم حاليا بالإضافة إلى دور المؤسستين الدوليتين فى تحقيق العدالة المناخية والتمويل الأخضر لكن بالتأكيد القوى التصويتية فى ناحية والعالم فى الناحية الأخري.
مخاطر زعزعة الاستقرار المالى العالمى
كانت السيدة جورجييفا تشدد على ضرورة أن تواصل المصارف المركزية مساعيها لحفظ الاستقرار النقدى والمالى العالمى وأن تعطى الأولوية لمكافحة التضخم ثم يأتى الاستقرار المالى من خلال أدوات مختلفة وفى رأينا ان هذه التصريحات تشير إلى عكس ما يحدث فى الأسواق العالمية فارتفاع أسعار الفائدة يؤدى إلى زيادة المخاطر وقيام أزمات الديون فى عدد متزايد من الدول قليلة الدخل خاصة ان ما قالته مديرة الصندوق يعنى ان 10 ٪ من هذه الدول تعانى من أزمة ديون فعلا وحوالى 40 ٪ من الدول الأخرى تقترب من هذا الاحتمال وهذا فى حقيقته يمثل ارتدادا أيضاً إلى التضخم وليس الخروج منه أو تقليله.
لذلك تحتاج المؤسسات المالية الدولية لمواجهة حقيقية لهذا الوضع أن يتوافر لها مزيد من الموارد وهو ما تحاول الدول الأعضاء إدارته لتفادى أجواء اقتصادية أكثر صعوبة.
لا شك ان نشر التوقعات المعدلة للاقتصاد العالمى سيشكل نقطة للانطلاق سواء رسمية أو غير رسمية سواء للمؤسسات الدولية أو الدول بصفة عامة خصوصا بعد تصريحات المدير العام للصندوق والتى أشارت إلى أن التوجه العالمى السائد بالنسبة للنمو العالمى المتوقع دون نسبة الـ 3 ٪ فى حين لا يتضمن مثل هذا المؤشر أى جديد وهذا التوجه قد يستمر لفترة طويلة مع توقعات صادمة ان الفيدرالى الأمريكى لا ينوى تخفيض الفائدة إلا فى نهاية عام 2025 وستظل أسعار الفائدة والتضخم والديون والنمو تخيم على آفاق النمو العالمي.
خلاصة القول
ان خفض توقعات النمو العالمى فى المرحلة القادمة أو حتى التفاؤل بزيادته بنسبة قليلة قائم ولكن هناك بعض الأمور التى يجب أن يناقشها المجتمعون هناك فى واشنطن فصناعة الشحن تأثرت فى العالم بسبب خريطة النفط الجديدة وتكاليف النقل والشحن تتزايد وتحولات خريطة الطاقة تتفاقم ونرجو ألا يغفل المجتمعون كل هذا وأن يأخذوا فى اعتبارهم تداعيات خفض الانتاج للأوبك بلس وكذلك تخفيضات روسيا الطوعية لأن النقطة الجوهرية ان هناك اشكالات كبيرة ستظهر مجددا على خلفية خفض أسعار النفط عالميا وهذا ما قالته ادارة معلومات الطاقة التى خفضت توقعاتها لأسعار الطاقة فى الفترة القادمة وهذا يحتاج إلى حديث آخر فأسباب الخفض وتداعياته جعلت خريطة الطاقة تتشكل من جديد.
لا نريد أن نقول ان العالم فى «مرحلة تصفية سياسية اقتصادية» من أجل إعادة تشكيله مرة أخرى فالحقيقة واضحة والمؤسسات الدولية تغمض عينيها عمدا.
وعلى المؤسسات المالية الدولية أن تسأل نفسها.. هل هى مستعدة للسيناريو الأسوأ أمام الحالة الانتقامية الموجودة بالأسواق وخروج الأموال الساخنة فأمريكا أخذت اقتصادها واقتصاد العالم إلى مناطق مجهولة وأربكت المشهد ولذلك على المؤسسات المالية الدولية أن تسأل نفسها: ماذا نحن فاعلون وما هو الهدف من هذه الاجتماعات أمام حالة الفوضى التجارية العارمة بعدما اختنق العالم، هل سيسمعون صرخات العالم من السياسات الاقتصادية والإكراه الاقتصادى والتضخم أم ما زالوا فى التفكير الماضوي.