شهدت الدراما المصرية هذا العام زخما ملحوظا وتنوعا فى المضامين والقضايا التى تناولتها، فى محاولة لنقل نبض المجتمع وهمومه وتطلعاته، ومستلهمة فى كثير من الأحيان من إرث عمالقة الدراما الذين تركوا بصمات لا تُمحى فى تاريخ التلفزيون المصري، ومن بين هؤلاء الرواد يبرز اسم الكاتب والمنتج الكبير ممدوح الليثي- رحمه الله- الذى أثرى الشاشة الصغيرة بأعمال فنية خالدة لامست قضايا اجتماعية ووطنية حساسة، وتركت أثراً عميقاً فى وجدان المشاهد المصرى والعربى على حد سواء. لقد كان ممدوح الليثى يضع استراتيجية وطنية للدراما فى رمضان من كل عام. وهذه الإستراتيجية كانت قائمة على اختيار كتاب عمالقة ومخرجين كبار وممثلين يتمتعون بأداء رائع من أجل إنتاج متميز.
ولذلك تم إنتاج توليفة متنوعة من الأعمال التى استهدفت شرائح مختلفة من الجمهور، حيث برزت المسلسلات الاجتماعية التى تناولت قضايا أسرية وعلاقات إنسانية معقدة، مسلطة الضوء على التحديات التى تواجه الأسر المصرية فى ظل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتسارعة. كما حظيت المسلسلات التى قدمها ممدوح الليثى قضايا المرأة وتمكينها وحقوقها بمساحة لا بأس بها، محاولةً تقديم نماذج نسائية قوية وملهمة قادرة على تجاوز الصعاب وتحقيق الذات. ولم تغب عن ممدوح الليثى المسلسلات التى تناولت قضايا الشباب وتحدياتهم وطموحاتهم، محاولةً الاقتراب من عالمهم والتعبير عن آمالهم ومخاوفهم.
إلى جانب الدراما الاجتماعية، حيث كان هناك حضور لافت للمسلسلات التاريخية والسير الذاتية التى استعرضت فترات هامة من تاريخ مصر الحديث، أو تناولت حياة شخصيات مؤثرة تركت بصمات واضحة فى مجالات مختلفة. هذه النوعية من الأعمال لم تقتصر على التوثيق التاريخي، بل سعت أيضاً إلى استخلاص العبر والدروس من الماضي، وربطها بالحاضر، وتعميق الشعور بالهوية الوطنية والانتماء. كما لم يخلُ الموسم الدرامى فى إستراتيجية الليثى من المسلسلات الكوميدية التى حاولت رسم البسمة على وجوه المشاهدين وتقديم جرعة من الترفيه الخفيف، مع الحرص فى بعض الأحيان على تضمين رسائل وقيم إيجابية فى سياق الأحداث الكوميدية.
وفى خضم هذا التنوع والغنى فى الإنتاج الدرامي، لا يمكن إغفال الدور الرائد الذى قام به ممدوح الليثى على مدار مسيرته الفنية الطويلة فى تقديم أعمال درامية ذات قيمة فنية وموضوعية عالية. لقد كان الليثى مؤمناً بأن الدراما ليست مجرد وسيلة للتسلية والترفيه، بل هى أداة قوية للتوعية والتثقيف والتأثير فى الرأى العام. ولذلك، حرص فى معظم أعماله التى قدمها ككاتب أو منتج على اختيار الموضوعات التى تمس قضايا حقيقية فى المجتمع المصري، وتسليط الضوء على المشكلات والتحديات التى تواجه المواطنين، مع محاولة تقديم رؤى وحلول ممكنة. وتميزت أعمال ممدوح الليثى بالجرأة فى طرح القضايا الاجتماعية الحساسة، مثل الفقر والبطالة والفساد والتطرف والعنف الأسرى وقضايا المرأة والشباب. لم يكن يخشى الخوض فى المناطق الشائكة، بل كان يرى فى ذلك واجباً على الفنان تجاه مجتمعه. وقد تجلى ذلك بوضوح فى العديد من المسلسلات التى قدمها، والتى ناقشت هذه القضايا بعمق وصدق، وأثارت نقاشاً مجتمعياً واسعاً، وساهمت فى زيادة الوعى بها.
لم تقتصر اهتمامات ممدوح الليثى على القضايا الاجتماعية الداخلية، بل امتدت أيضاً إلى القضايا الوطنية والقومية. لقد كان الليثى مؤمناً بأهمية دور الفن فى تعزيز الشعور بالانتماء الوطني، وتعميق الوعى بالتاريخ والهوية المصرية والعربية. وقد تجلى ذلك فى الأعمال الدرامية التى تناولت فترات هامة من تاريخ مصر، أو التى استعرضت بطولات وتضحيات أبناء الوطن فى سبيل الدفاع عنه. كما كان حريصاً على تقديم صورة إيجابية عن مصر وقيمها وتقاليدها العريقة.
لقد كان ممدوح الليثى يتمتع برؤية فنية ثاقبة وقدرة على اختيار النصوص الجيدة والمواهب المتميزة من الممثلين والمخرجين. كان يؤمن بأهمية التكامل بين عناصر العمل الدرامى المختلفة، من أجل تقديم منتج فنى متكامل ومؤثر. وقد ساهمت هذه الرؤية فى تحقيق النجاح الكبير الذى حظيت به العديد من الأعمال التى أشرف عليها أو قام بكتابتها.
إن الإرث الذى تركه ممدوح الليثى فى عالم الدراما المصرية يظل حاضراً ومؤثراً حتى اليوم. فقد استطاعت أعماله أن تخاطب عقول وقلوب المشاهدين، وأن تترك بصمات واضحة فى الذاكرة الجمعية. ولا شك أن دراما هذا العام، بما قدمته من تنوع فى الموضوعات والأساليب، كان يجب أن تستلهم بشكل أو بآخر من هذا الإرث الغني، وتحاول أن تسير على نفس الدرب فى تقديم أعمال فنية هادفة ومؤثرة تلامس قضايا المجتمع والوطن.
وإذا نظرنا إلى مسيرة الكاتب والمنتج القدير ممدوح الليثي، نجد أنه قد وضع أسساً راسخة للدراما الاجتماعية والوطنية الهادفة، وأن أعماله ستظل مرجعاً هاماً للأجيال القادمة من صناع الدراما. إن الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والوطنية فى الدراما ليس مجرد اتجاه فني، بل هو ضرورة حتمية لكى تقوم الدراما بدورها الحقيقى فى التوعية والتثقيف والتأثير الإيجابى فى المجتمع، وهو ما أدركه الراحل ممدوح الليثى مبكراً وسعى لتحقيقه فى كل أعماله.
>>>
أواصل نشر الحديث عن الإستراتيحية الوطنية للتصنيع فى الإسبوع القادم إن شاء الله
