فى الزمن الذى أصبح فيه محرك البحث هو النافذة الأولى للمعرفة، تحولت الصحافة من رسالتها الجوهرية إلى سباق محموم مع الخوارزميات، وبدلاً من أن يكون الصحفى هو حامل لواء الحقيقة، بات أسيرًا لكلمات مفتاحية وأدوات تحليل بيانات، يبحث عن إرضاء الذوق العام على حساب المضمون والفكر.
إن ظهور «خوارزميات جوجل»، ومنصات التواصل الاجتماعى – التى تحدد ما يجب أن يقرأه الجمهور- أفرز جيلاً جديدًا من الصحفيين الذين باتوا يكتبون وفق متطلبات هذه الأنظمة. لم يعد السؤال: «ما هى الحقيقة؟»، بل أصبح: «ما هى الكلمة المفتاحية الأكثر بحثًا؟»، وهكذا، لم تعد الأولوية للمحتوى العميق، بل للموضوعات الرائجة التى تجذب النقرات.
إن الخضوع لسطوة الخوارزميات لا يُهدد الصحافة فحسب، بل يُشكل خطرًا على وعى المجتمع ككل، فحين يصبح الجمهور هو من يفرض على الصحفى ماذا يكتب، وفقًا لرغباته اللحظية، تندثر الموضوعات الجادة، وتصبح الصحافة أداة تسلية بدلاً من كونها سلطة رابعة.
وما أخطر من ذلك هو أن صحافة الـSEO قد فتحت الباب واسعًا أمام «الصحافة الصفراء»، حيث أصبحت العناوين المضللة والمحتوى السطحى وسيلة لضمان الظهور على الصفحة الأولى فى البحث على جوجل، بغض النظر عن دقة المعلومات أو قيمتها. وهذا يعنى أن الصحافة، بدلاً من أن تقود الرأى العام نحو الحقيقة، أصبحت منقادة لهوس الجماهير بالمحتوى الخفيف والمثير.
إن إنقاذ الصحافة من هذا المنحدر لا يكمن فى رفض التكنولوجيا، بل فى إيجاد التوازن بين الالتزام بالمعايير المهنية والاستفادة من أدوات العصر، هناك حاجة إلى ميثاق شرف جديد للصحافة الرقمية، يعيد الاعتبار للمحتوى الجاد، ويضع آليات لمكافحة المحتوى التافه والمضلل.
كما ينبغى أن تتبنى المؤسسات الإعلامية نماذج أعمال لا تعتمد فقط على الإعلانات القائمة على عدد النقرات، بل تُشجع الاشتراكات المدفوعة والمحتوى المدعوم من القراء، لضمان استقلالية الصحفى وحريته فى تقديم محتوى يرتقى بالفكر.
إن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هى ضمير الأمة، وإذا سُمح للخوارزميات أن تقودها، فإن النتيجة الحتمية هى تسطيح الوعى الجمعى. ويبقى السؤال: هل سنسمح للصحافة بأن تكون أسيرة للـSEO، أم أننا قادرون على استعادة رسالتها الحقيقية، قبل أن نفيق على واقع لا مكان فيه للفكر، بل فقط لما يراه محرك البحث.