عندما تصعد الطابق الخامس بمجمع البحوث الإسلامية بمقره الكائن فى مدينة نصر.. تشعر يقينا باختلاف المكان والأشخاص، فإذا كان المبنى واحداً فالطوابق مختلفة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.. وعلى باب اللجنة تمتلئ نفسك مهابة حتى تكاد تخلع نعليك لأنك بمكان مقدس.. وبعدما تدخل عليهم الباب تجد أجيالا متدرجة الأعمار فى خليط زمنى يجمع حكمة الشيوخ وحماس الشباب.. يحمل السابق تجربة العمل ومحاذيره ومخاطره لينقلها إلى اللاحق، الجميع يعلمون أنهم يسيرون على الأشواك ووسط الألغام، لأن عملهم يرتبط بأقدس الكلمات والكتب على وجه الأرض.
وحينما ترجع بالبصر متجولا فى أرجاء المكتب ترى رجلا تظن طوال الوقت أنه مبتسم، لكنها طبيعة ملامح وجهه، صمته يغلب كلامه، يتحدث مع أفراد العمل باللجنة مستخدماً الإشارة مخافة تشتيت انتباههم فيما يقومون به من عمل، ويدفعك الفضول لمعرفة ذلك القائد المحترف الذى لا يسمح بالنغمات النشاز فى منظومته العملية، فتعرف أنه الدكتور عبدالكريم صالح رئيس لجنة مراجعة المصحف الشريف، رمز التدقيق فى العالم الإسلامى لآيات كتاب الله تعالى فى اللفظ والضبط، وتقترب أكثر من مكتبه الجالس عليه لتجد أمامه عدداً من المصاحف التى يراجعها فى شكلها النهائى قبل الموافقة الكاملة أو الرفض الذى لا عودة من بعده، كلمته فصل، لا تعقيب عليها، وأحكامه ليس لها طريق فى النقض، وقبل العمل له طقوس خاصة، فحين يأتى من بلدته بمحافظة البحيرة باكر صباح كل ثلاثاء، وقبل أن يفعل شيئا يقوم بالوضوء وصلاة ركعتين، طلبا للمعونة الإلهية، ويعقب ذلك ترديده مجموعة أوراد وأذكار متضمنة الصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينهض مسرعا يدخل صومعة العمل، والجميع يلتزم الصمت، فلا تسمع إلا همساً، العيون تتحرك فى النسخ القرآنية الموجودة أمامهم يدققون فى كل كلمة وآية، ويحفظون قواعد تصويبها بكل سند ورواية.
سألنا د. عبدالكريم عن أعضاء اللجنة فوصفهم بأنهم أفضل منه مقاما إلا أنهم تفضلوا بأن جعلوه أثقلهم حملا وأكثرهم عبئا، حين اختاروه لرئاسة أشرف لجنة تعرفها الإنسانية، مضيفا أن أعضاء اللجنة نخبة من المتخصصين فى القرآن الكريم وعلومه بجامعة الأزهر ومعاهد القراءات، تصيبك الحيرة إذا أردت التمييز بينهم، وهذا لأنهم يملكون السر، وهذا السر فيض عطاء إلهى لا يملك البشر فيه دفعاً ولا رداً، فإذا كان القرآن قد نزل بمكة فإنه قُرئ ترتيلا وتجويدا بمصر، وليس هذا فحسب بل ضُبطت نصوصه وأحكامه بمصر، فعلماء مصر هم حفظة كتاب الله تعالى من التحريف والتبديل، اسماؤهم تشهد بها مطبوعات المصاحف على مستوى العالمين العربى والإسلامي، ولجنة مراجعة المصحف الشريف بمجمع البحوث الإسلامية، تعد أقدم لجنة على مستوى العالمين العربى والاسلامي، وعضويتها ليست متاحة ولا مباحة سوى لمن تحققت فيهم شروط بعينها، بأن يكون متمكنا من علم القراءات، لأن كل مصحف له طريقة معينة ومنهج مغاير بسبب اختلاف القراءات، وبعدما يأخذ المصحف موافقة بلده، يتم إرساله إلى لجنة مراجعة المصحف بالأزهر الشريف حتى يحصل على الإجازة النهائية ويأخذ موافقة اللجنة حيث يحيط أعضاء اللجنة بمختلف المصاحف مهما تباينت خطوطها ورسومها.
شاهدنا المراحل التى يمر بها المصحف منذ مجيئه مع صاحب المطبعة الى اللجنة، ففى المرحلة الأولى يقوم صاحب المطبعة بتقديم طلب على نموذج مطبوع من المجمع ومعه نسخة مصحف مطلوب مراجعتها مع سداد الرسوم المقررة وقيمتها 5 آلاف جنيه، إضافة إلى الأوراق الرسمية الثبوتية الخاصة بالمطبعة التى تقوم على طباعة المصحف، ومنها السجل الخاص المطبعة، ونوعية الماكينات التى يتم الطباعة عليها قديمة أم حديثة، وبعد تقديم صاحب المطبعة كل المستندات وعدد النسخ المطلوبة يأخذ المصحف دوره بعد تسجيل الطلب فى السجلات، ويحصل صاحب المطبعة على رقم مسلسل ليدخل دوره فى الفحص والتدقيق، وإعطاء الإذن بالطبع أو الرفض، ثم تأتى المرحلة الثانية التى يتم فيها عرض المصحف المقدم على اللجنة حتى تقرر اللجنة إحالة المصحف لأحد أعضائها من الشباب لمراجعته، وكتابة تقرير عنه، وتعد هذه هى المرحلة الأولى للمصحف الشريف، وفى مرحلة تالية يتم مراجعة المصحف مرة ثانية من عضو أكثر أقدمية من العضو السابق، وأحيانا تتعدد المراجعة أكثر من ذلك إلى ثلاث أو أربع مرات وقد تزيد هذه المراجعات، وإذا كانت الأخطاء بسيطة تم إعادة النسخة إلى صاحب المطبعة وتسليمه الملاحظات من اللجنة الواردة على المصحف ليقوم بتصويبها وإعادتها إلى اللجنة مرة ثانية بعد تصحيحها على نسخة أخري، ثم يتم الاطلاع عليها والتأكد من تلافى الملاحظات التى قامت اللجنة برصدها وكتابتها، ويتم بعدها كتابة تقرير لصلاحية طباعة المصحف، ويستخرج صاحب المطبعة إذناً يسمح له بطباعة المصحف، ولا يعد هذا الإذن تصريحا بتداول المصحف، ثم بعد ذلك تأتى بروفة أخرى من المصحف يتم مراجعتها من أحد أعضاء لجنة مراجعة المصحف، ثم بعد ذلك يتم إحالتها إلى مراجع آخر، وقد تتكرر المراجعة إلى ثلاث أو أربع مرات، وكلما تبين وجود ملاحظات يتم إعادة المصحف مرة أخرى إلى صاحب المطبعة، وبعد التصويب يتم كتابة تقرير بتداول المصحف وبناء عليه يتم إصدار تصريح لتداول المصحف الشريف شريطة الالتزام بالعدد المذكور فى التصريح، والمُدة المصرح له بها، على أن تلتزم المطبعة بنوع الخط والرواية المكتوب بها المصحف، والمقاس المقدم به للطبع.
سألناه هل بإمكان صاحب المطبعة بعد التصريح له بالتداول أن يعطيها لمطبعة أخرى تقوم بطباعة نسخ وفق هذا التصريح، أجاب د. صالح بأن كل تصريح خاص بالمطبعة التى تقدمت بالطلب، ولا يجوز تداول المصحف المصرح بطباعته إلى مطبعة أخري، ولا يصح وضع أى زخارف مسموح بها فى الإطار العام الذى يوضع حول نصوص القرآن الكريم، أو اسم السورة، إلا بقرار من مجمع البحوث الإسلامية وشيخ الأزهر الشريف الذى صرح بمنع الألوان بأن المصحف لا يكتب إلا بالمداد الأسود وعلى أرضية الورق الأبيض أو الكريمى فقط. احتراما لرغبة الدكتور عبدالكريم فى التوقف عن الحديث حتى يقوم بتكملة المهام المسنودة إليه، التقت «الجمهورية» بالشيخ سلامة كامل جمعة أقدم أعضاء لجنة مراجعه المصحف ومدير معهد القراءات، والرجل له من طباع القضاة كثير حيث الحدة وعدم الليونة، وقد بدأ حديثه قائلا: إن طبيعة عملنا الجدية، ونسبة الخطأ فى أعمالنا صفرية، فلا نقبل أن يخرج من تحت أيدينا مصحف إلا كان شاهدا لنا لا علينا، ونستعين بالله دائما فى طلب التوفيق ونسأله أن يهدينا الصواب، لذلك فإننا عندما نقف على ضبط الخطأ فذلك ليس اجتهادا من أنفسنا، إنما هداية وتوفيق من الله تعالي، وإذا وجدنا بالمصحف أخطاء فإن اللجنة لديها سلطة الضبطية القضائية، ومهمتها جمع المصاحف التى بها أخطاء، وإدانة المطبعة، واتخاذ الإجراءات القانونية حيالها، حيث أعطى أمين عام مجمع البحوث الإسلامية سبعة أعضاء من لجنة مراجعة المصحف حق الضبطية القضائية، ويستخرج لهم قرار من وزارة العدل ليحق لهم إذا وجدوا مصحفا به مخالفات فلهم حق تقديم صاحب المطبعة إلى النيابة العامة لتقرر إغلاق هذه المطبعة، ومحاسبة صاحبها، مضيفا أن لجنة مراجعة المصحف تتكون من رئيس، واثنين وكلاء، وسبعة من القدامي، و20 عضواً تحت التدريب كلهم يحفظون القرآن الكريم بالقراءات العشر والرسم العثمانى والضبط وعدد الآيات والفواصل والتشكيل، مشيراً إلى أن عملهم يستمر فى مراجعة المصحف بعد الطبع، وقبل الطباعة تذهب لجنة إلى المطبعة المذكور اسمها فى التصريح للتأكد من العناية بالنظافة العامة وتغيير الزنكات لكل 5 آلاف نسخة حتى يخرج المصحف بشكل طيب، والاحتياط من وجود غبار أثناء الرياح حتى لا تمثل أى نقاط إضافية على الحروف مما يؤدى إلى تغيير المعني، ويشترط أن تكون ماكينات الطبع حديثة، مكونه من وحدتين، وحدة للوجه، ووحدة للظهر.
الشيخ حسن عبدالنبى وكيل لجنة مراجعه المصحف يتحدث عن أحجام المصاحف التى يتم طباعتها وتداولها فى الاسواق فيقول إن مقاسات المصحف مختلفة منها عن مقاس 10 * 7 وهذه مصاحف الجيب، مختلفة فى الاحجام ثم يأتى بعد ذلك مصحف التهجد، وهناك مشروع مطروح حاليا من د. نظير عياد أمين عام مجمع البحوث الإسلامية على فضيلة الإمام الأكبر دكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر يتضمن بناء مُجَمَّع كامل مُجَهَّز لطباعة المصحف الشريف الخاص بالأزهر، وذلك من أجل أن يكون الأزهر هو الجهة الوحيدة المنوطة بطباعة المصحف الشريف، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى بعض أعضاء اللجنة ليحدثنا عن طباعه أجزاء المصاحف الصغيرة، التى يتم طباعتها وتداولها غالبا كصدقات للأموات، وهى الصور المتفرقة مثل: ياسين، والدخان، والملك، والرحمن، إضافة إلى الأدعية للميت، وبعض الأحاديث القدسية والنبوية الملحقة بهذه السور، حيث أكد أن هذه المصاحف الصغيرة التى توزع كصدقات هى مصاحف يتم مراجعتها مراجعة جيدة، وهى عبارة عن نسخة أو أكثر من نسخة، ويتم منحها لبعض المطابع بعد دفع الرسوم، وفيها تصريح، وبها صفحة بيضاء خاصة باسم الميت وأهله والدعاء، كما هو معهود، ويتم عمل بصمة بالدعاء للمتوفي، لكنه أبدى أسفه لمستوى قراء الإذاعة والتليفزيون، مؤكدا أنهم يحتاجون إلى إعادة هيكلة واختبار خاصة المستجدين منهم، حيث يحتاجون إلى مراجعات، وإعادة اختبارات بدقة تحت إشراف الازهر الشريف ولو بصورة إلكترونية.
الدكتور ممدوح ماهر عبدالخالق مدير إدارة المصحف الشريف مهمته مراجعة بعض اللوحات القرآنية التى يكتبها المتخصصون فى فنون الخطوط بمدرسة الخطوط العربية بالمدرسة السعيدية بالجيزة، يكشف أن ما يطبق على مراجعة المصحف، يُطبق على اللوحات من ناحية الرسم والضبط أيا كانت نوعية الخط، لأن هناك خطاطاً يكتب بالرقعة، وخطاطاً يكتب بالنسخ، وآخر بالكوفي، أو بالثلاث، وأنواع الخطوط عديدة، فقد جاء إلينا على سبيل المثال مصحف من سلطنة عمان مكتوب بجميع الخطوط، وقمنا بمراجعته وتمت إعادته إلى السلطنة بعد أربع سنوات مراجعة، وهذا مصحف إلكتروني، وهكذا فى غالب بعض الدول العربية التى تأتى إلينا بمصاحف لمراجعتها قبل طبعها وتداولها فى الأسواق.