فى العاب القوى هناك سباقات جرى قصيرة مطلوب من اللاعب أن يندفع إلى نصف الطريق بأسرع ما يمكن خاصة فى مسافة الـ 100 متر.. لكن فى سباقات الماراثون أكثر من 42 كيلومتراً.. عليه أن يوزع جهده.. ويقسمه على مراحل السباق الطويلة.. حتى يضمن لنفسه أن يكون فى أول الصف..
طيب ايه مناسبة هذا الكلام ونحن نفتح ابواب الذكريات والحكايات عن الروائى التليفزيونى الأول أسامة أنور عكاشة؟.. لأنه يشبه عداء المسافات الطويلة.. وهذا ما تراه فى ليالى الحلمية بالاجزاء الخمسة منها.. التى وصلت إلى 195 حلقة زمن الواحدة منها 45 دقيقة فى المتوسط.. وما كان لكاتب مهما كانت قدرته ولياقته الابداعية أن يقطع هذا المشوار.. مع كل هذا العدد الرهيب من الشخصيات (أكثر من 300 شخصية) وهو يمسك بخيوطها ويحركها من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان.. إلا هذا الرجل الذى جاء من كتابة القصة والرواية بسعى ولم يكن فى حسبان ابن كفر الشيخ المولود فى طنطا ودرس فى الإسكندرية وعمل موظفاً فى رعاية الشباب بجامعة الأزهر بـ 15 جنيهاً.. بعد ليسانس الآداب فى الفلسفة وعلم النفس قبل أن ينفصلا فى قسمين.. لم يكن فى حسبانه أن يترك صنعة الأدب المكتوب ويدخل إلى دنيا التليفزيون وقد كان معظم الأدباء فى هذا العصر ينظرون باستخفاف إلى كاتب السيناريو.. وعندما اصطدرت كتابى «فن الأدب التليفزيونى عام 1992».. رفض جمال الغيطانى ويسرى الجندى ووحيد حامد هذا المسمي.. ووافق عليه وتحمس له جداً عبدالله الطوخى الذى قال إن زمن الرواية المكتوبة سوف يمضى لكى يفسح المجال للرواية التليفزيونية.. وكانت المفاجأة أن أمير الرواية نجيب محفوظ منح جلبابه واعجابه لاسمه وقال له حرفياً فى مقابلة جرت بينهما بعد ليالى الحلمية، أنت محفوظ التليفزيون.. وكأنه يؤكد على شهادة الطوخى الذى نصح الأدباء والشعراء أن يتعلموا فن السيناريو وأن يكتبوا للشاشة مباشرة.
بعد «الشهد والدموع».. انتبه الناس وأهل الدراما.. إلى لون جديد يمتزج فيه تراب الوطن وتاريخه بهموم بيوتنا وأحلامها وبحث التليفزيون المصرى عن أسامة ورفيق مشواره إسماعيل عبدالحفيظ.. وتعاقد معهما على استكمال المسلسل فى بيتهم.. بعد أن قدما الحلقات الأولى منه فى الخليج.. وموظف رعاية الشباب الذى كتب القصة والرواية.. وقدم مجموعة قصصية «خارج الدنيا» قدم منها الأديب سليمان فياض.. سهرة «تليفزيونية».. لم يكن يتصور سحر هذا الجهاز.. فى ظل أدب لا يتم تداوله إلا بين فئة الأدبائية فقط.. فى دائرة ضيقة.. ولكنه ظل يقاوم حتى التقى مصادفة بعد غياب بزميل دراسته المخرج فخر الدين صلاح.
فخر سأله بالطبع: ازاى الحال وفين اراضيك؟.. وحكى له اسامة عن رحلته الوظيفية بين التدريس ثم رعاية الشباب وطلب منه أن يكتب سباعية يتم تصويرها فى الخليج وكان جوابه: سيناريو ايه أنا ما أعرفش؟ وحكى له فخر كيف أن نجيب محفوظ هو الآخر لم يكن يعرف ما السيناريو.. حتى جاء إليه المخرج صلاح أبوسيف بنصوص عرف منها كيف يحول القصة إلى مشاهد.. وهو ايضا جرى مع أسامة فقد احضر إليه فخر سيناريو سهرة تليفزيونية كتبها محفوظ عبدالرحمن عن قصة لإحسان عبدالقدوس عنوانها «علبة من الصفيح الصدئ».. وانطلق واغلق بابه على نفسه فى شقته بالجيزة المواجهة لمحطة القطار فى شارع جانبي.. وكتب «الإنسان والحقيقة، فى 4 أيام لا غير» وحصل على 400 جنيه اشترى ببعضها ثلاجة ووضعها فى صالة البيت ودار حولها اطفاله كأنها صاحب المقام سيدنا فلان الفلانى حسب وصفه لى وتوالت اعماله. وبدأ اسمه ينتشر فى أوساط الفن حيث كان يتم تصوير المسلسلات فى الخليج وأوروبا لكن الجمهور لم يعرف اسمه ولم يكن يهتم اصلاً بكاتب السيناريو.. وقدم المشربية والحصار وأبواب المدينة حتى اذا وصلنا إلى محطة الشهد والدموع.. سألت الناس: من هذا ؟!.. فاذا بلغنا ليالى الحلمية.. كان الحدث الذى هز العالم العربى كله وقد كنت فى رحلة إلى المغرب والحلقة تذاع كل أربعاء مرة.. واغمضت عينى فى الفندق الذى نزلت فيه بالرباط واصوات سليم البدرى وسليمان غانم وسماسم والمعلم زينهم تأتى إلى وكأنى فى روض الفرج أو باب الشعرية ساعتها رقص قلبى فرحاً وسألت نفسى ما الذى جعل حكاية مصر الشعبية تهز وجدان المغاربة هناك على الأطلسي.. إلا أنها انسانية الكتابة وروعة الكاتب..
وبميلاد نجومية اسامة كمؤلف.. انتبه الناس إلى الأكابر محفوظ عبدالرحمن ووحيد حامد وبشير الديك.. ومحمد جلال عبدالقوى ومحمد السيد عيد وأبوالعلا السلامونى ويسرى الجندى وكرم النجار وعاطف بشاره وأحمد عوض ومحمد حلمى هلال.. وكوثر هيكل وفتحية العسال.. واصبحت الدراما التليفزيونية هى ديوان العرب بعد الشعر.. لأن أمة إقرا.. اصبحت أمة «انظر» والصورة هى لغة العصر قبل أن يأتى مولانا الفيس وسيدنا تويتر.. وتصبح الدنيا كلها عجينة واحدة. واقتحمت الكاميرات اسوار البيوت ودخلت إلى غرف النوم والحمامات.
وعندما أعلنت الشئون المعنوية للقوات منذ سنوات للقوات المسلحة أنها ستنتج سلسله أفلام عن أبطال الجيش فى حروبه العديدة وفيها سيكتب أسامة عن حرب أكتوبر قامت الدنيا ولم تقعد.. لأنه «ناصري» وسوف يظلم السادات بطل الحرب وهذه حقيقة لا يستطيع عكاشة ولا غيره أن يهرب منها هاجموه قبل أن يكتب حرفاً فى الفيلم.. واذا كان أسامة قد كتب الشهد والدموع عن صراع داخل اسرة.. فإنه وسع الدائرة فى ليالى الحلمية.. الصراع حول الوطن.. ثم كان مشروعه الأهم والأكبر الذى لم يمهله القدر لكى يحققه فى مئات الحلقات وهو «المصراوية».. لكنه بأرابيسك وزيزينيا.. والراية البيضا وأبوالعلا البشري.. وغيرها كتب رواية عشق للوطن والمواطن.. تسيدنا بهذه الاعمال مع بوابة الحلوانى ونصف ربيع الآخر والمال والبنون والفرسان وعمر بن عبدالعزيز وهارون الرشيد وسيرة الهلالى والزينى بركات تسيدنا الدراما العربية.. ووصل صوتنا إلى كل مكان كما فعلت الاذاعة المصرية بالأغانى والبرامج..
وهو ما بدأ يعود الأمن من خلال أسماء مثل عبدالرحيم كمال وراغب دويدار وهانى كمال وأخرون.
وعن طريق مسلسلات أسامة مع محمد فاضل وإسماعيل عبدالحفاظ انطلق العبقرى سيد حجاب يحول مقدمات المسلسلات إلى وثائق غنائية تعيش باصوات محمد الحلو والحجار ومدحت صالح وحسن فؤاد وبألحان ميشيل المصرى وعمار الشريعي.. فهل هناك من لا يهتز قلبه ومشاعره مع مقدمة الحلمية بصوت الحلو بالكلام الأصلي:
منين بيجى الشجن
من اختلاف الزمن
ومنين بيجى الهوى
من ائتلاف الهوى
ومنين بيجى السواد
من الطمع والغناء
ومنين بيجى الرضا
من الايمان بالقضا
من انكسار الروح
فى دوح الوطن
من احتضار الشوق
فى سجن البدن
من اختمار الحلم بيجى النهار
يعود غريب الدار لأهل وسكن
ليه يازمان
ماسبتناش أبريا
ووخدنا ليه فى طريق مامنوش رجوع
أقسى دموعنا تفجر السخرية
واصفى ضحكة تتوه فى بحر الدموع!!
والسؤال المهم: ماذأضافت ورش الكتابة إلى المسلسل المصرى وهل يمكن أن نسترد الريادة الدرامية بدون مؤلف حقيقي؟.. سؤال اتركه لأهل الفن جميعاً وللمتفرج الواعي!