تذهب المناصب ويبقى الأثر والأخلاق والسيرة الحسنة وحب الناس.. وتلك قيمة عظيمة لا يدانيها فضلٌ، فكم من أناس تولوا مناصب رفيعة ذهبت مناصبهم وبقيت مآثرهم أو مناقبهم.. علينا أن نلتقى بالحب، ونقف على أرضية الاحترام والأخلاق.. فالإنسان الحق من يترك فى الحياة أثرًا إيجابيًا يبقيه حيًا بين الناس بعد رحيله.
وإذا أردت حب الناس فازهد فيما بين أيديهم ولا تتكالب على الدنيا، فلن ينالك منها إلا ما كتب الله لك، والغنى الحقيقي، كما يقول مفكرنا الكبير د.مصطفى محمود، أن تستغني.. والملكية الحقيقية ألا يملكك أحد.. وألا تستولى عليك رغبة.. وألا تسوقك نزوة.
وكلُّ مآسى الإنسان وليدة أمنياته غير الواقعية.
الأثر الطيب ليس شيئًا هينًا، بل يحتاج لجهد طيب وإخلاص فى الود وصدق فى المودة، فما يخرج من القلب يستقر فى القلب، والأثر الطيب الذى يتركه المرء بعد وفاته هو عمْرٌ آخر، فبه يُذكر، فيثنى عليه، فيكون سبباً لعفو الله تعالى عنه، ويدعى له بسببه فيقبل الله تعالى دعوة الداعين ويكرمه بحسن المآب، ويعمل الناس بعلمه أو ما تركه من خير لوجه الله فيجرى له ثواب العاملين، كأنه لا يزال يعيش ويعمل.
لكن الأثر الطيب لا يعنى أبدًا أن تشغل نفسك بإرضاء الناس؛ فتلك غاية لا تدرك.
وإذا أردت معرفة فضل الله ونعمه عليك فاقتطع جزءًا من وقتك واذهب إلى مستشفى أو عيادة طبيب لترى أحوال المرضى ولتعلم أنك فى فيض من النعم.. ولا يتحقق النجاح فى الحياة إلا بحسن التوكل على الله والأخذ بالأسباب كما ينبغى والزهد فى الدنيا.. سئل الإمام حسن البصرى رحمه الله عن سر زهده فى الدنيا فقال: علمت أن رزقى لا يأخذه غيرى فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملى لا يقوم به غيرى فشُغلت به وحدي، وعلمت أن الله مطلع عليَّ فاستحييت أن يرانى على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرنى فأعددت الزاد للقاء ربي.
تُرى لو أنك فعلت ذلك هل تجد وقتا لاختلاق مشكلة مع غيرك، هل تترك نفسك لهواها وشيطانها.
واسأل نفسك دومًا لماذا شبّه الله الدنيا بالماء بقوله تعالي:» واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا».(الكهف:45).. يقول الإمام القرطبى رحمه الله قال بعض الحكماء شبّه الله تعالى الدنيا بالماء لأسباب عديدة؛ فالماء لا يستقر فى موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على حال واحدة، والماء يذهب ولا يبقى فكذلك الدنيا تفنى ولا تبقي، والماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ، وكذلك الدنيا لا يسلم أحد من فتنتها وآفتها، والماء إذا كان بقدر كان نافعًا منبتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضارًا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضرّ، وقد يهلك»..
نحن لا نرتب أماكن الأشخاص فى قلوبنا.. بل تتولى ذلك أفعالهم وممارساتهم وسجاياهم، وكذلك فإن أفعالنا وتصرفاتنا هى المسئولة عن ترتيب أماكننا فى قلوب الآخرين.
أن يكون لك أثر طيب بكل مكان، أثر باقٍ فهذا شيء طيب.. أن تكون لك ذكرى طيبة وبقايا ماثلة من صدق حروفك وأخلاقك.. اجعل خطواتك مستقيمة، وثق بالمولى ليبقى لك أثر جميل طيب فى القلوب؛ فأثرك ليس حصرا على من تعرفهم، واجعل سلوكك قدوة حسنة لمن يراك، وازرع فيمن حولك حب الخير والإيثار والصفاء والعطاء والتماسك والتآزر والتكافل وجميل الصفات والأعمال والأقوال .
الخلاصة.. أننا سنرحل يوماً ويبقى الأثر.. فاللهم اجعل حصادنا من هذه الدنيا أثرًا طيبًا نُذْكَرَ به، واجعلنا اللهم من الشاكرين لعطائك الصابرين على قضائك، الفائزين برضوانك.