٥٣١ يوماً الآن، وغزة تنزف دمًا وألمًا وقهرًا، والعالم يتفرج.. نحو ٩٢ ألف شهيد من المدنيين الذين فقدوا أرواحهم بلا جُرم ارتكبوه، أو ذنب اقترفوه، أو سبب واحد مقنع يبرر قتلهم رجالًا ونساءً وأطفالًا وشيوخًا، بهذه السادية، وتلك البشاعة، والعالم يتفرج!.. جرحى عددهم جاوز الـ ٩٦ ألفًا، بإصابات مختلفة، ومأساة واحدة، وأمل غائب فى أن تشرق الشمس ذات صباح على نهاية لهذا العبث، ولا جديد يمكن أن يبعث على هذا الأمل، والعالم يتفرج!.. خراب ودمار ورائحة موت تفوح فى كل شبر من قطاع غزة الحزين، الذى تمت تسويته بالأرض، ويخشى أهله أن يسرقوا منهم الأرض، ويشردوهم قسرًا فى أرض غير الأرض، والعالم يتفرج!
اهتمام دولى «على الورق».. تعاطف غربى لا يبرح «خانة الكلام».. مؤتمرات.. ولقاءات تلى لقاءات.. وجلسات تلو جلسات.. واتصالات بعد اتصالات.. وتصريحات تلد التصريحات.. وصل الأمر إلى محكمة العدل الدولية.. ولا عدل فاعلاً.. ولا تحرك وحيداً إيجابياً.. ولا إرادة دولية حقيقية.. يبقى الواقع الأليم هو الواقع الأليم.. والغد الكئيب، يعقبه يوم أكثر كآبة منه.. ونفس العالَم العالِم بكل شيء، والصامت عن كل شيء، والمستسلم فى كل شيء، لا يزال يتفرج!
نتنياهو ورفاقه يفعلون ما يحلو لهم.. يتحدُّون بصلف وعنجهية غريبة المجتمع الدولى بأكمله.. لا يعرف أى منهم معنى واحدًا من معانى الإنسانية.. ويضربون بعرض الحائط، وبمنتهى الاستهانة والاستهتار، كافة القرارات الأممية.. جديدها عندهم مثل قديمها.. لا يمتثلون لها ولا حتى تعنيهم.. كم صدع رءوسنا الغرب المتقدم بنغمة حقوق الإنسان، متباهيًا كذبًا بإيمانه العميق بها، وها هو ينكشف على حقيقته المخزية أمام كل ما يجرى عيانًا بيانًا فى قطاع غزة من جرائم مفجعة للإبادة الجماعية، والتخريب والتدمير والحصار والتجويع والتعطيش ومحاولات ومخططات الاحتلال لتهجير الفلسطينيين قسريًا خارج أراضيهم، بل ويجلس دون حياء إنساني، فى الصفوف الأمامية للعالم الذى يتفرج!
قرابة المليون ونصف المليون «بنى آدم»، يتكدسون حاليًا فى رفح الفلسطينية.. يصبحون ويمسون فى العراء.. ينامون على الأرض، ويلتحفون السماء، فى عز البرد والمطر والذعر، والعالم يتفرج.. خوف حد الهلع من حماقة ودموية «يمين متطرف»، يقتلهم من الرعب بتهديداته، قبل أن تقصفهم من الجو طائراته، أو حتى تصل إليهم زحفًا دباباته.. لا جديد عندهم كل مساء إلا نفس الأرق.. ولا يرون كل صباح غير مزيد من القلق.. والعالم يتفرج!
كم حذرت مصر من اليوم الأول من عواقب وخيمة، واتساع لرقعة الصراع بمقدوره أن يشعل المنطقة كلها، ويضعها على حافة بركان؟.. كم بذلت «القاهرة» من جهود حثيثة ولا تزال، لإقرار التهدئة، وسعت بكل ما أوتيت من قوة دبلوماسية دولية، وثقل سياسى فى محيطها الإقليمى للتطبيق الفورى لإطلاق النار؟.. كم من المساعدات الإنسانية دخلت عبر منفذ رفح البرى لأشقائنا الفلسطينيين المحاصرين بالقطاع المنكوب؟.. ٠٨% مما وصلهم وأغاثهم فى شدتهم «مصرياً حكومة وشعبًا»، ومستمرون فى دعمهم بكل السبل.. معبر رفح كمطار العريش.. كلاهما «طوارئ» على مدار الساعة.. لا صوت يعلو هناك فوق صوت الإنسانية.. هو قدر الشقيقة الكبري.. تحملته طوال تاريخها.. وستظل تتحامل على نفسها وتتحمله.. برغم كل الضغوط الشديدة التى تتعرض لها، والتى لن تثنيها عن أن تقوم به دائمًا، وعلى أكمل وجه.
الغريب والعجيب – رغم أنه لم يعد هناك لا غريب ولا عجيب فى هذا العالم، وهذه الأيام التى نعيشها، حتى أننا تقريبًا فقدنا «حاسة الاندهاش» – هو ما تم إطلاقه مؤخرًا من مزاعم تداولتها وسائل إعلام دولية، بشأن قيام مصر بالإعداد لتشييد وحدات لإيواء الأشقاء الفلسطينيين فى المنطقة المحاذية للحدود المصرية مع غزة، حال تهجيرهم قسريًا، بفعل العدوان الإسرائيلى الغاشم عليهم فى القطاع.
الكذبة تكشف نفسها بنفسها.. أى عاقل يمكن أن «تخيل عليه»، أو يصدقها؟!.. الموقف المصرى واضح وضوح الشمس.. ومحدد إلى أبعد درجات الحسم.. تم إعلانه عشرات المرات، على لسان الرئيس، وكل الجهات الرسمية والمعنية بالدولة.. الموقف ثابت.. والرفض تام وقاطع ولا رجعة فيه، إزاء أى محاولة لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم بقطاع غزة، طوعًا أو كرهًا.. المعنى الوحيد لهذا هو تصفية القضية الفلسطينية، واقتلاع الحق الفلسطينى من جذوره.. السيادة والأمن القومى للمصريين «خط أحمر»، لا يمكن تجاوزه لكائن مَن كان.. ولدى «القاهرة» – كما عبر صراحة رئيس الهيئة العامة للاستعلامات فى رده على هذه المزاعم – من الوسائل ما يمكنها من التعامل مع ذلك بصورة «فورية وفعالة».
مصر موقفها صريح ومعلن للجميع.. ولا يمكن أن تتخذ على أراضيها أى إجراءات أو تحركات تتعارض معه.. ما هذا الخيال المريض الذى قد يوحى للبعض أن مصر يمكنها أن تشارك فى جريمة التهجير التى تدعو لها بعض الأطراف الإسرائيلية ؟!.. هى جريمة حرب كما وصفها ضياء رشوان.. لا يمكن أن تكون مصر طرفًا فيها.. بل على العكس تمامًا، ستتخذ قطعًا كل ما يجب عمله، فى سبيل وقفها، ومنع مَن يسعون إلى ارتكابها من تنفيذها.
وحول ما تداولته بعض وسائل الإعلام الدولية، لما يوصف ببدء مصر فى إنشاء جدار عازل على حدودها مع قطاع غزة، أوضح «رشوان» أن لدى مصر بالفعل، ومنذ فترة طويلة قبل اندلاع الأزمة الحالية، منطقة عازلة وأسوار، وهى الإجراءات والتدابير التى تتخذها أى دولة فى العالم، للحفاظ على أمن حدودها، وسيادتها على أراضيها.
نقطة.. ومن أول السطر.. مصر هى مصر.. العالم كله.. شرقه وغربه.. شماله وجنوبه.. يعرفها وعلى علم تام بمبادئها الراسخة، ومواقفها التى لا تحيد عنها.. لا تهزها تصريحات.. ولا تغير قناعاتها محاولات.. ولم ولن تؤثر فيها مزاعم أو شائعات.. السؤال الأهم، والأوحد، الذى يجب أن نسأله نحن لهذا العالم، وعليه أن يسأله هو لنفسه وهو يتفرج – صامتًا أو عاجزًا – على كارثة إنسانية بهذا الحجم على أرض غزة: «إلى متي»؟!